معركة بلا ذخيرة: كيف ترسم إيران وإسرائيل الواقع بأدوات التضليل

رافي برازي
calendar_month
نشر: 2025-06-19 , 10:13 ص
edit
تعديل: 2025-06-19 , 1:55 م

تشهد الحرب بين إيران وإسرائيل تصعيداً مزدوجاً يشمل المواجهة العسكرية التقليدية وحرباً معلوماتية موازية لا تقل تأثيراً. في هذه الحرب، تعتمد الدولتان على أدوات تضليل متقدمة تشمل الحسابات الوهمية، والتزييف العميق، والشبكات الإعلامية الموجهة. تهدف هذه الأدوات إلى تشكيل الرأي العام، وتثبيت سرديات معينة تخدم الأهداف السياسية والعسكرية لكل طرف عبر حملات منسقة. لتُدار المعركة على الوعي في الداخل والخارج، بنشر روايات مضللة، وصناعة انتصارات افتراضية، وتضخيم رسائل مدروسة مسبقاً. 

الحسابات الوهمية سلاحٌ في الحرب بين إيران وإسرائيل

تُعد الحسابات الوهمية أحد أبرز أدوات الحرب المعلوماتية التي تعتمد عليها الدول في النزاعات المعاصرة، وتبرز في سياق المواجهة بين إيران وإسرائيل. تُوظَّف هذه الحسابات ضمن ما يُعرف بـ"جيوش الظل الرقمية"، وهي شبكات مكوّنة من آلاف الهويات المزيفة التي تُستخدم لنشر الروايات الرسمية، وتضخيم رسائل النظام، والتشويش على الروايات المعارضة. تعمل هذه الشبكات عبر منصات مثل إكس، فيسبوك، وتيليغرام، وتتوزع بين لغات ونطاقات جغرافية مختلفة، ما يمنحها قدرة على التأثير خارج حدود الدولة. ولا تهدف هذه الحملات إلى بث الرسائل الدعائية وحسب، بل إلى خلق انطباع بوجود تأييد شعبي واسع، أو تشويه صورة الخصم، أو خلط الحقائق بسرديات مشوهة يصعب التحقق منها لحظة بلحظة.

تعتمد إيران منهجياً على شبكة معقدة من الحسابات الوهمية والجيوش الإلكترونية، تشكل أحد أعمدة منظومتها الدعائية في الداخل والخارج. وبحسب دراسة صادرة عن منتدى "فكرة" التابع لمعهد واشنطن، يعتمد النظام الإيراني على إنشاء آلاف المواقع والحسابات المزيفة عبر فيسبوك وإنستغرام وإكس لنشر الأخبار المضللة دولياً، ضمن ما يصفه مسؤولون بـ"الحرب النفسية". وتشير الدراسة إلى أن هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية (IRIB) تعمل بالتنسيق مع وزارة الاستخبارات والحرس الثوري كجزء من منظومة متكاملة لإنتاج وترويج المحتوى المضلل، سواء عبر الحملات الدعائية أو بث الاعترافات المصنّعة التي تخدم سردية النظام. وقد امتدت هذه الأنشطة إلى أكثر من 20 دولة في أوروبا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط، وفق تقارير شركة ميتا لعام 2020، التي كشفت وأزالت أكثر من 500 حساب وهمي ضمن شبكات مرتبطة بإيران.

في المقابل، توظّف إسرائيل أيضًا شبكات حسابات وهمية ضمن حملاتها الدعائية، ففي الحرب على غزة عام 2023، كشفت بوليتيكو أن إسرائيل أدارت أكثر من 600 حساب وهمي انتحلت صفة مواطنين أمريكيين، كانت مهمتها نشر تعليقات مؤيدة لإسرائيل على صفحات نواب في الكونغرس الأميركي، بهدف دعم الرواية الإسرائيلية والتقليل من شأن التقارير حول الخسائر المدنية الفلسطينية. كما اعترفت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية باستخدام حسابات مزيفة داخل إسرائيل نفسها خلال حملات داخلية استهدفت رفع معنويات الشارع، وهو ما مثّل سابقة في استخدام أدوات التأثير ضد الجمهور المحلي. وتعتمد هذه الحسابات على خطاب تعبوي مكرر، وتنسيق مباشر مع شخصيات مؤثرة، لنشر محتوى موحّد يعكس سردية المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.

الذكاء الاصطناعي في الدعاية الإيرانية والإسرائيلية

أحدثت تقنيات التزييف العميق والذكاء الاصطناعي تحولاً نوعياً في أدوات الحرب الإعلامية، إذ باتت تُمكّن الدول من إنتاج محتوى مرئي مزيف يصعب تمييزه عن الحقيقي، ويُستخدم لتوجيه الرأي العام أو تشويه الخصوم أو اختلاق انتصارات وهمية. في سياق الصراع بين إيران وإسرائيل، تحوّلت هذه التقنية إلى أداة مركزية ضمن ما يُعرف بحرب السرديات، حيث يُعاد إنتاج الوقائع بصرياً بما يخدم الرواية الرسمية. ولوحظ خلال حرب يونيو/ حزيران 2025 انتشار واسع لمقاطع فيديو وصور مزيفة تُظهر ضربات وصفت بأنها "حاسمة"، لكنها في الواقع منتجة رقمياً، ما جعل التزييف البصري جبهة موازية للمعركة العسكرية.

تتبنى إيران تقنيات التزييف العميق والذكاء الاصطناعي بشكل واسع لتضخيم إنجازاتها العسكرية وبث رسائل مضللة موجهة داخل البلاد وخارجها. ففي كانون الأول/ ديسمبر 2023، نفّذ قراصنة مرتبطون بالحرس الثوري الإيراني عملية قرصنة استهدفت البث المباشر لقنوات في الإمارات والمملكة المتحدة وكندا، وذلك بإدخال نشرة أخبار مزيفة أُنتجت باستخدام الذكاء الاصطناعي وفق تقرير لمايكروسوفت، ظهر فيها مذيع مفبرك يعرض مشاهد صادمة لضحايا مزعومين في غزة، مع تحميل إسرائيل مسؤولية المجازر المرتكبة. وقد اعتُبرت هذه الحادثة أول عملية تأثير إيرانية موثقة تستخدم الذكاء الاصطناعي كعنصر مركزي في رسالتها الدعائية. بالإضافة إلى ذلك، روجت منصات إعلامية موالية لإيران صورة مزيفة لطائرة إسرائيلية من طراز F-35 زُعم إسقاطها بواسطة الدفاعات الإيرانية، إلا أن الصورة كانت مولدة آليًا وبعيدة كل البعد عن الواقع.

في الجانب الآخر، اعتمدت الحسابات الداعمة لإسرائيل بوتيرة متزايدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق ضمن حملاتها الدعائية. من الأمثلة البارزة، مقطع تداولته حسابات على تيك توك وحصد مئات الآلاف من المشاهدات، زُعم أنه يوثّق دمارًا ناتجًا عن غارات إسرائيلية على منشآت إيرانية، لكن تحليلًا بصريًا أجرته يورو نيوز كشف أن المقطع مُولّد بالكامل بالذكاء الاصطناعي، إذ أظهرت اللقطات أشعة غير طبيعية تنبعث من أحد أبراج التبريد، فضلاً عن ظهور شاحنة إطفاء على حافة فوهة مشوّهة رقميًا، في حين بدا بعض عناصر الإنقاذ وكأنهم يختفون في الهواء. 

صناعة الانتصارات الوهمية: كيف يدير البَلدان معركة الصورة قبل المعركة الميدانية

تخوض إيران وإسرائيل معركة إعلامية موازية للمعركة العسكرية، تبدأ بالصورة قبل أن تبدأ بالنار. في هذه الحرب، لا تُنتَج الصور لتوثيق الواقع، بل لإعادة تشكيله. تُنشر لقطات الضربات والانتصارات الميدانية بكثافة منذ الساعات الأولى، حتى قبل التأكد من صحتها أو نتائجها، في محاولة لصناعة واقع نفسي يُظهر كل طرف بموقع المُبادر والمتفوق. وتُستخدم في ذلك مقاطع مصورة وتصاميم دعائية وبيانات انفعالية، تستهدف رفع معنويات المناصرين، وبث الرهبة في الطرف الآخر، وتوجيه الرأي العام الداخلي والدولي نحو رواية نصر محسوم. بهذه الأدوات، تتحول الصورة إلى سلاح قائم بذاته، يُوظَّف لإرباك الحسابات السياسية والعسكرية، ويُخاض به صراع على الإدراك قد يتجاوز أثره نتائج المعركة الميدانية ذاتها.

اعتمدت إيران خلال حرب حزيران/ يونيو 2025 على استراتيجية إعلامية تهدف إلى تضخيم الإنجازات العسكرية وتصويرها على أنها ضربات حاسمة. إذ بعد انطلاق العملية مباشرة، نشرت شبكات موالية لإيران عن إسقاط طائرتين إسرائيليتين من طراز F-35 وأسر قائديهما، من بينهما طيارة زُعم أنها تدعى "سارة أحرونوت"، وروّج لذلك بصورة قيل إنها للطيارة، لاحقًا، أظهر التحقق في منصة تأكد أن الادعاء مضلل، والصورة المرفقة لا تعود للشخصية التي زُعم أسرها، بل لضابطة من تشيلي تُدعى "دانييلا فيغيروا". تداولت كذلك قناة "العالم" مقطعًا زعمت أنه يُظهر دمارًا واسعًا في منشأة بمدينة حيفا، تبيّن لاحقًا أنه مولد بالذكاء الاصطناعي من مقطع تخيلى عن غزة.

في الجانب الإسرائيلي، لم تختلف الأساليب كثيرًا، لكن هذه المرة لم تأتِ عبر وسائل التواصل الاجتماعي بل من الحسابات الرسمية للجيش الإسرائيلي نفسه. ففي 13 حزيران/ يونيو 2025، نشر الجيش مقطعاً زعم أنه يوثق هجوماً صاروخياً إيرانياً على تل أبيب، لكن تحقيقًا لقناة TF1 الفرنسية كشف أن أول ست ثوانٍ من الفيديو مأخوذة من مشاهد تعود إلى تصعيد سابق في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، ولا علاقة لها بالحدث الجاري. يعكس هذا التلاعب محاولة لصناعة مشهد دعائي سريع يعزّز رواية التفوق والتهديد، باستخدام لقطات خارجة عن سياقها الزمني أو لا علاقة لها بالأحداث.

السيطرة المعلوماتية الشاملة: إدارة الداخل والخارج عبر التضليل الالكتروني

توسعت الحرب المعلوماتية بين إيران وإسرائيل لتتجاوز التضليل التقليدي، وتتحول إلى أداة سيطرة استراتيجية تشمل إنتاج وتوجيه الخطاب في الداخل والخارج معًا. تعتمد هذه السيطرة على توظيف أدوات رقمية متقدمة، وتنسيق بين الإعلام التقليدي والجيوش السيبرانية، في سياق حملات مبرمجة تهدف إلى هندسة الإدراك وفرض السردية الرسمية. هذه الحرب لا تُدار فقط بردود الفعل، بل بخطط استباقية تُخضع الجمهور لمحتوى ممنهج يصعب مساءلته أو اختراقه، بما يجعل من البيئة المعلوماتية نفسها مجالاً للنفوذ.

فتبني إيران شبكتها المعلوماتية على تداخل منظم بين الأجهزة الإعلامية والأمنية، تقوده هيئة الإذاعة والتلفزيون (IRIB) ووزارة الاستخبارات ووحدات الحرس الثوري، ضمن ما تُسميه "الحرب النفسية". كما ورد في دراسة صادرة عن منتدى "فكرة" التابع لمعهد واشنطن، إذ أنشأت آلاف الحسابات والمواقع المزيفة بلغات متعددة، وفعّلتها في أكثر من 20 دولة. داخليًا، تُستخدم هذه الأدوات لبث اعترافات مصنّعة وتشويه المحتجّين، وخارجيًا تنتشر واجهات إعلامية تدّعي الاستقلال لترويج التدخلات الإيرانية. كما كشفت تحقيقات لموقع بوليتيكو أن طهران أدارت ما لا يقل عن 19 موقعًا باللغة الإنجليزية موجهًا للجمهور الأميركي، مثل Afro Majority وNot Our War، ركزت على قضايا محلية كالعنصرية ومعاداة الحروب، مستهدفة فئات مثل الأميركيين السود والمحاربين القدامى، باستخدام محتوى منشأ جزئياً بالذكاء الاصطناعي لمحاكاة اهتماماتهم وإحداث شرخ داخلي داخل المجتمع الأميركي.

في المقابل، تعتمد إسرائيل على منظومة معلوماتية معقدة لتوجيه الرأي العام الداخلي و الخارجي، تشمل أدوات رسمية وغير رسمية تتوزع بين الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية. ففي حزيران/ يونيو 2025، وثّقت صحيفة نيويورك تايمز إنشاء ثلاث منصات إخبارية باللغة الإنجليزية تدّعي الحياد، لكنها تروّج بشكل مباشر للسردية الأمنية الإسرائيلية، مستهدفة جمهورًا دوليًا عبر محتوى موجّه بعدة لغات. كما يُستخدم "كتيّب هسبراه" كأداة تعبئة منهجية لتدريب طلاب الشتات اليهودي على مواجهة السرديات المنتقدة لإسرائيل على الإنترنت، ما يعكس تشبيكًا بين الدولة ومنظمات مدنية داعمة لتدعيم الرواية المضللة. في السياق ذاته، كشفت تحقيقات لمعهد فلسطين للدبلوماسية العامة عن وحدة غير رسمية تُعرف باسم Team Jorge يقودها ضباط سابقون، وقدّمت خدمات تضليل إعلامي في أكثر من 30 دولة باستخدام أداة AIMS لتشغيل آلاف الحسابات الوهمية وتوليد محتوى زائف مدعوم بالذكاء الاصطناعي. وفي مقابل هذه المنظومات المؤسسية وجهودها المنظمة، يبرز معهد فلسطين للدبلوماسية العامة كنموذج بديل يوظف أدوات التواصل الرقمي لتعزيز سردية الحقوق الفلسطينية، من خلال حملات توعية تُخاطب الجمهور الدولي بخطاب إنساني وحقوقي، بعيدًا عن التلاعب أو التصنيع الإعلامي.

كيف تحصّن وعيك من هذه المعركة؟

يتزايد خطر أدوات التضليل الإعلامي والتزييف الرقمي في زمن تحوّل فيه الفضاء الرقمي إلى ميدان صراع مفتوح بين إيران وإسرائيل. فمع قدرة الطرفين على صناعة الروايات المزيفة وهندسة وعي الجمهور، لم تعد مواجهة التضليل مسألة بسيطة تتعلق بكشف كذبة هنا أو هناك. ولتحصين نفسك من الوقوع في هذا الفخ، من الضروري بناء مناعة إعلامية مستدامة، تبدأ بالتشكيك النقدي، واستخدام أدوات التحقق الرقمي الحديثة، والتربية الإعلامية المستمرة. في هذا الصدد، اسأل نفسك عن مصدر المعلومة، قارن الأخبار بمصادر متعددة، ولا تنساق وراء الاستجابات العاطفية. بإمكانك هكذا حماية وعيك ضمن معركةٍ باتت الحقيقة فيها صناعة رقمية تُنتجها البرمجيات الذكية، لا الوقائع على الأرض.

لماذا تأكد؟!

منصة تأكد منصة مستقلة وغير متحيزة متخصصة بالتحقق من الأخبار والمعلومات تأسست في سوريا أوائل عام 2016 لمواجهة انتشار المعلومات المضللة.

معتمدة من:

certified

دليل التحقق

certified

شاركنا لنتأكد

© جميع الحقوق محفوظة لمنصّة تأكّد 2025