كيف نواجه التضليل خلال الصراع؟

رافي برازي
calendar_month
نشر: 2025-05-02 , 8:33 م

لا يبقى التحريض الإلكتروني حبيس الشاشات، ففي سوريا، كما في العديد من مناطق النزاع، قد يتحول المحتوى التحريضي في غضون ساعات إلى شرارة لاشتباكات دامية، كالتي شهدتها منطقتا جرمانا وأشرفية صحنايا في ريف دمشق ، والتي تعد واحدة من أخطر النماذج المعاصرة على تأثير هذا النوع من المحتوى. إذ اندلعت اشتباكات مسلحة أسفرت عن عشرات الضحايا والجرحى، بعدما انتشر مقطع صوتي منسوب لأحد أبناء الطائفة الدرزية يتضمّن إساءة للنبي محمد ﷺ، تبعه سيل من المنشورات التحريضية على مواقع التواصل. وقد صرحت وزارة الداخلية لاحقاً بأن ما حدث كان نتيجة مباشرة لانتشار خطاب الكراهية والتحريض، مؤكدة أن التحقيقات جارية لمعرفة مصدر التسجيل ومن يقف خلف التجييش.

هذا الحدث لم يكن معزولاً، بل سبقه وتبعه أمثلة أخرى على تحويل الفضاء الرقمي إلى أداة تأجيج. في حالات مشابهة، من دير الزور إلى السويداء، أدت شائعات ومنشورات تحريضية إلى تفاقم التوترات، وإلى انزلاق الأوضاع الأمنية إلى مواجهات دامية.

حين يتبدل المعنى بتبدل السياق

لا يحتاج التحريض في بيئة مشحونة سوى إلى صورة أو مقطع فيديو واحد، لكن الأهم من الصورة هو السياق الذي تُعرض فيه. في كانون الأول/ ديسمبر 2024، تداولت حسابات مقطعًا يُظهر أسر مقاتلة تابعة لقوات سوريا الديمقراطية، و تهديدها بالذبح، زاعمة أنه يوثق مشهدًا حديثًا من معارك شمال سوريا، رغم أن المقطع في الواقع يعود إلى عام 2019 خلال عملية "نبع السلام". أُعيد نشر التسجيل دون توضيح تاريخه، ما جعله يبدو كحدث راهن، وخلق ردود فعل غاضبة مبنية على سياق مختلف.

فالسياق ليس مجرد خلفية تقنية، بل هو البنية التي تمنح المعلومة معناها. فحين يُقتطع تصريح من سياقه، أو تُعرض صورة دون تحديد زمنها، تصبح المعلومة أداة قابلة للتشكيل حسب رغبة المرسل. 

التأويل المسبق والانحياز التأكيدي

لا يحتاج التحريض في بيئة مشحونة سوى إلى صورة واحدة، لكن الأهم من الصورة هو القصة التي تُسرد حولها. في نيسان/أبريل 2025، تداولت حسابات على مواقع التواصل صورة زُعم أنها توثق مصادرة أسلحة إسرائيلية من مسلحين دروز فرّوا من موقع في جرمانا بريف دمشق. المشهد أثار موجة تأويلات تحريضية، مستندة إلى ما بدا "دليلًا بصريًا" يصعب إنكاره. لكن بعد التحقق، تبيّن أن الصورة تعود في الأصل إلى عام 2019، وهي توثّق مضبوطات عُثر عليها في مركبة فلسطينية داخل الأراضي المحتلة، ولا علاقة لها بسوريا أو بالأحداث المتداولة.

و حين يصبح التأويل المسبق مرشّحًا للحقيقة، تتحول كل صورة إلى سلاح، وكل تصريح إلى ذريعة. وتصبح وسائل التواصل في هذه الحالة آلية للاستقطاب وليس لنقل المعرفة. 

عندما تمنح الشهرة شرعية للكذب

في سياق متسارع، لا تتوقف خطورة الأخبار التحريضية عند المنشورات المجهولة أو مجهولي الهوية، بل تزداد تعقيداً حين تُعاد صياغتها أو نشرها من قبل شخصيات عامة أو منصات ذات تأثير واسع. فحين يُعاد تدوير إشاعة أو خبر مجتزأ من قبل جهة موثوقة أو شخصية ذات حضور شعبي، يكتسب الخبر شرعية زائفة، ويصعب بعد ذلك دحضه في عيون المتابعين. هذا ما يُعرف إعلامياً بـ"تبييض التضليل"، وهي آلية تمنح الكذب قشرة من الثقة يصعب اختراقها.

وفي أكثر من مناسبة، وُثقت حالات قامت فيها صفحات إخبارية محلية أو صحفيون بنشر مقاطع مأخوذة من خارج سياقها، دون قصد مباشر في التحريض، لكن من دون تحقق كافٍ. في تلك اللحظات، يتحول السبق الصحفي إلى سهم طائش. 

سرديات مصنّعة ومناخات مشحونة

التحريض لا يقوم فقط على الحدث، بل على القصة التي تُنسج حوله. ومن خلال مراقبة أنماط النشر في أوقات الأزمات، يتضح أن هناك سرديات كاملة يتم بناؤها أحيانًا على أساس تجميع مشاهد متباعدة في الزمان والمكان، لكنها توضع في قالب واحد يوحي بأن هناك "مؤامرة" أو تهديدًا ممنهجًا. من خلال إعادة استخدام مشاهد قتالية قديمة، أو تصريحات سياسية مجتزأة، أو توظيف مفردات دينية وتاريخية، كل ذلك يُستخدم لصياغة سرديات تعبئة تؤدي إلى الانقسام والتأجيج.

وقد شهدت مناطق الساحل السوري مطلع  شهر آذار/مارس عام 2025 عدة حالات تداول فيها المستخدمون صورًا قديمة على أنها توثّق أحداثًا جارية، بما في ذلك مشاهد عنف من بلدان أخرى. كما انتشرت منشورات تربط وقائع متباعدة ببعضها البعض لتأكيد فرضية جاهزة عن تهديد مجتمعي. وتكمن الخطورة في أن هذه السرديات لا تُقدَّم كاحتمالات، بل تُعرض كحقائق مكتملة، ما يجعلها تلقى قبولاً لدى جمهور متوتر أصلًا، يبحث عن تفسير شامل لما يحيط به.

حملات التحريض الممنهجة و"الذباب الإلكتروني"

لقد أصبح التحريض الإلكتروني في سوريا عملية ممنهجة أحيانًا، تقف خلفها جهات تسعى لتحقيق أهداف سياسية أو فئوية. المصطلح الشائع لوصف الجيوش الإلكترونية التي تشن هذه الحملات هو "الذباب الإلكتروني"،  وهو يصف مجموعات من الحسابات الوهمية أو المُدارَة آليًا التي تعمل بشكل منسق لنشر رسائل محددة​.. هذه الرسائل قد تكون شائعات مغرضة، أو تحريضًا ضد فئة معينة، أو دعاية لتلميع صورة طرف ما وتشويه آخر. الهدف الأساسي هو توجيه الرأي العام حسب أجندة معينة عبر تضليل الجمهور​.

وعادة ما ترتبط حسابات الذباب الإلكتروني بجهات حكومية أو أمنية أو جماعات سياسية، وأحيانًا شركات خاصة تموّل حملات التأثير الرقمي.  تعمل هذه الحسابات بأعداد ضخمة وتنسّق فيما بينها ضمن غرف مغلقة على واتساب و تلغرام لتحديد وسوم (هاشتاغات) و مواضيع موحدة للتركيز عليها​، ثم تقوم بإغراق الفضاء الإلكتروني بمنشورات وتعليقات متكررة ومتشابهة لخلق ما يشبه الإجماع الوهمي حول رواية معينة​ . بهذه الطريقة يشعر القارئ العادي كما لو أن "الجميع" يتبنى رأيًا ما، فيميل لتصديقه أو على الأقل الشك في الروايات الأخرى.

الضحية والمشارك: التمييز بين صانع التحريض ومن ينقله

من الإنصاف الإشارة إلى أن بعض من يشاركون هذا النوع من المحتوى لا يفعلون ذلك بدافع التلاعب أو التأجيج المتعمد، بل من موقع شعورهم بالغضب أو التهميش أو فقدان الثقة بالمصادر الرسمية. في بيئات مشبعة بالإحباط، قد يتحول التفاعل مع منشور تحريضي إلى وسيلة تعبير عن ألم شخصي أو احتجاج غير مباشر على واقع غير مُرضٍ. وبالتالي، يصبح من الضروري التمييز بين من يصنع التضليل عمدًا، ومن يساهم في نشره انطلاقًا من معاناة حقيقية.

هذا البعد لا يبرر نشر المعلومات الكاذبة، لكنه يضعه في إطاره الاجتماعي والنفسي. فالأفراد الذين فقدوا الثقة بالإعلام، أو لم يجدوا تمثيلًا لروايتهم في النقاش العام، قد يلجأون إلى محتوى غير موثوق لأنه يعبّر عنهم، ولو بطريقة مشوهة. ولهذا، فإن مكافحة التحريض لا تكون فعالة فقط بتفنيد الادعاءات، بل أيضًا بفهم دوافع الجمهور، والإنصات للقلق الشعبي الكامن وراء إعادة نشر معلومة خاطئة. حين ندمج هذا الفهم في استراتيجيات التحقق والتصدي للمحتوى المضلل، نصبح أقرب إلى بناء بيئة معلوماتية أكثر توازنًا وشمولًا.

المعرفة المضادة... والمجتمع الواعي

التحقق من صحة المحتوى ليس مهمة تقنية معقدة، بل يبدأ من لحظة استقبال الخبر. حين تواجه منشورًا صادمًا أو مثيرًا للغضب، توقف واسأل نفسك: هل يُعقل أن يحدث هذا دون تغطية أوسع أو توثيق من جهات متعددة؟ هل المعلومة منسوبة إلى شخص معروف أم حساب مجهول؟ هل تتطابق مع ما نعرفه عن الواقع؟ في كثير من الحالات، يكون أول خيط للشك هو اللهجة المستخدمة: كلما زادت الانفعالية، وقلّت التفاصيل، ارتفعت احتمالات التضليل. كما أن المنشورات التي تفتقر للتواريخ الدقيقة أو تكتفي بالصور والمقاطع دون سياق واضح، تكون أكثر عرضة لسوء الفهم أو التلاعب.

فالتحقق لا يعني التشكيك بكل شيء، بل يعني التعامل النقدي مع المعلومة قبل ترويجها. و يمكن لكل شخص أن يعود إلى الذاكرة أو إلى من يعرف، ليقارن الرواية المتداولة مع شهادات حقيقية أو تقارير سابقة. وإن غابت أي إشارات إلى الحدث في الإعلام التقليدي، أو كانت جميع الروايات تنبع من مصدر واحد غير موثوق، فذلك يوجب التروي لا المشاركة. في النهاية، سؤال بسيط: من قال هذا؟ متى؟ في أي سياق؟ يكفي لوقف موجة تضليل قبل أن تتسع. بهذه الأسئلة، نُعيد للمعلومة معناها، وللرأي العام توازنه، ولأنفسنا دورًا واعيًا في حماية المجتمع الرقمي من الانفعال والتأجيج.

مسؤولية جماعية أمام الفتنة الرقمية

تجربة السنوات الماضية تثبت أن التضليل لا يحتاج إلى جهد كبير لينتشر، بل إلى جمهور غاضب ومستعد للتصديق. لكن في المقابل، لا يحتاج التصدي له إلى تقنيات خارقة، بل إلى إرادة مجتمعية ترفض الانسياق خلف العناوين السريعة. فحين يعتاد المستخدم على سؤال السياق، والتحقق من الخلفيات، ورفض الخطاب المنفعل، يصبح جزءًا من الحل لا من المشكلة.

وإذا كانت الشائعة تنطلق بكلمة، فإن كسرها يبدأ بسؤال. هذه مسؤولية كل مستخدم، وكل صحفي، وكل منصة. فالحقيقة لا تحتاج إلى إثارة لتعيش، لكنها تحتاج إلى جمهور لا يُخدع بسهولة. وفي زمن المعلومات الفائضة، يصبح التمييز بين الغضب المشروع والتحريض المصنوع ضرورة أخلاقية قبل أن تكون مهنية.

إن معركة الحاضر لا تُخاض فقط في الشوارع، بل في الفضاءات الرقمية. ومن يكسب معركة السرد، قد يحسم اتجاه الواقع. ولهذا، فإن بناء سرديات قائمة على السياق، وعلى الفهم المتكامل، هو الجدار الأول في مواجهة الكراهية المصنّعة.

لماذا تأكد؟!

منصة تأكد منصة مستقلة وغير متحيزة متخصصة بالتحقق من الأخبار والمعلومات تأسست في سوريا أوائل عام 2016 لمواجهة انتشار المعلومات المضللة.

معتمدة من:

certified

دليل التحقق

certified

شاركنا لنتأكد

© جميع الحقوق محفوظة لمنصّة تأكّد 2025