أعاد الظهور المفاجئ لميرا جلال ثابات بعد اختفائها لأيام، بملامح متوترة ولباس شرعي غير مألوف، مصطلح "السبي" إلى صدارة الخطاب العام في سوريا. فسمح غياب روايتها الشخصية في الساعات الأولى؛ بانتشار سيل من الادعاءات المتضاربة على منصات التواصل، وتجاوزت القصة بعدها الشخصي، لتتحول إلى أداة رمزية في مشهد اجتماعي مشحون، استُدعي فيه تاريخ الجماعات المتطرفة لتغذية مخاوف عابرة للطوائف والانتماءات.
ما منح القصة زخمًا أكبر لم يكن مصير الفتاة وحده، بل عودة مصطلح "السبي" إلى واجهة الخطاب العام، لا كمجرد وصف لحادثة، بل كأداة دعائية تُستخدم لتصوير السلطة الانتقالية على أنها امتداد لأيديولوجيا التنظيمات المتشددة. في بيئة مشحونة بالاستقطاب، تحوّلت قصة ميرا من قصة فردية إلى رمز يُستدعى لتغذية سرديات عنف ومظلومية، في استدعاء متكرر لمفاهيم دينية قديمة يُعاد توظيفها في الخطاب الدعائي الحاضر.
مع بداية تشكّل السلطة الانتقالية في سوريا نهاية عام 2024، أُعيد استحضار مصطلح "السبي" في منصات إعلامية وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي موالية للنظام المخلوع والجهات المعارضة للسلطة الحالية؛ كأداة تشويه سياسي وأخلاقي، تُستخدم لتقويض شرعية هذه السلطة الجديدة. ضخت هذه الجهات شائعات مفادها أن فصائل أمنية وعناصر من "الحكومة الانتقالية" متورطون في اختطاف فتيات و"بيعهن" في ما سُمّي بـ"أسواق نخاسة" داخل إدلب.
صورة لتقرير بثته قناة روناهي ادعى "افتتاح أسواق النخاسة بإدلب"
في آذار/ مارس 2025 بثّت قناة روناهي تقريرًا عقب أحداث الساحل السوري، روّجت فيه لادعاء يزعم افتتاح ما وُصف بـ"أسواق نخاسة" في إدلب لبيع نساء من الطائفة العلوية اختُطفن على يد مجموعات مسلحة. التقرير قارن صراحةً بين هذه المزاعم وبين ممارسات تنظيم "داعش" بحق النساء الإيزيديات، مستندًا إلى منشورات متداولة على منصات التواصل الاجتماعي دون تقديم أدلة موثّقة أو تحقيقات مستقلّة. و أثارت هذه الرواية قلقًا واسعًا، ما دفع مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، لنفي صحتها بشكل قاطع، مؤكداً عدم وجود أي توثيق لهذه الادعاءات، ومعتبرًا أن ترويجها يندرج ضمن حملات التضليل الإعلامي التي تهدف لإثارة الذعر وترسيخ مفاهيم مشحونة تاريخيًا مثل "السبي"، لتعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية.
واحدة من هذه الشائعات طالت فتاة تُدعى رنيم زريفة، حيث انتشرت ادعاءات بأنها اختُطفت وتعرضت للسبي على يد عناصر تابعين للمعارضة المسلحة. تداولت صفحات إخبارية وناشطون قصص الخطف بوصفها "دليلًا على أن المعارضة تكرّر ممارسات داعش"، ورافقتها تعليقات ومقاطع مشوّشة تدّعي الكشف عن "مأساة الفتيات في ظل السلطة الحالية".
لكن ظهرت رنيم بنفسها في تسجيل مصور لتنفي الرواية بشكل كامل، مؤكدة أنها لم تتعرض لأي أذى، وأن ما جرى ليس سوى تلفيق. رغم ذلك، استمر تداول القصة بصيغتها الأولى، بعدما أدت وظيفتها الدعائية: خلق صدمة، وبث شكوك، وإعادة ترسيخ صورة نمطية عن الطرف الآخر.
تكشف هذه الحادثة – وغيرها من الشائعات المشابهة – كيف يُستخدم مصطلح "السبي" اليوم بوصفه أداة حرب نفسية، لا لكشف الحقيقة أو حماية الضحايا، بل لتقويض أي بديل سياسي. فالمصطلح مشحون دينيًا وتاريخيًا، ويُستدعى في لحظات التحوّل لتخويف الجمهور من التغيير، لا سيما حين يكون خصم السلطة مزيجًا من فصائل ذات طابع إسلامي أو حركات ثورية. وفي ظل غياب تحقيقات مستقلة، وانتشار المحتوى العاطفي غير الموثق، يجد هذا النوع من التضليل أرضًا خصبة للانتشار. وهكذا، تحولت مأساة "السبي" من جريمة توثّق وتُدان، إلى أداة تُفبرك وتُستثمر في لعبة السرديات المتنازعة على شرعية الحكم والذاكرة.
مع اشتداد الاستقطاب في الثورة السورية، أُقحمت النساء في الحرب الإعلامية والدعائية؛ حيث عمل النظام المخلوع وحلفائه من جهة، وبعض الجهات المناوئة للتيارات الإسلامية من جهة أخرى، على توظيف فزاعة "السبي" تارة لتشويه صورة الثورة السورية وضرب سمعتها أمام الحاضنة الشعبية والعالم، وتارة أخرى لتحقير نسائهم بتلفيق سردية "جهاد النكاح" التي ساهمت بترويجها جهات إيرانية.
روان قداح، فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً من مدينة نوى في درعا، ظهرت على شاشة التلفزيون السوري في عهد نظام الأسد، بعد تعرضها للخطف على يد عناصر الأمن العسكري في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، لتختفي منذ ذلك الحين وتظهر على الشاشة كالكثير من المعتلقين الذي أرغمهم النظام على الخروج في مقابلات ذات سيناريو جاهز، لكن مقابلة روان التي حملت عنوان "أب يبيع شرف ابنته" كانت مختلفة، فقد أرغمها النظام على اتهام والدها، ذو الخلفية الثورية المشهود لها في المدينة، بأنه كان يحضر بعض "العناصر المسلحة" إلى البيت ويترك لهم المجال لإقامة العلاقات الجنسية معها بحجة "جهاد النكاح".
وبالرغم من نفي الدعاة الذين نسبت إليهم الفتوى المستند عليها في ترويج هذه السردية، ورغم تحقيق صحيفة فرنسية بحجم اللوموند التي ربطت هذه السردية الملفقة بالحرب الإعلامية والدعائية التابعة للنظام المخلوع، إلا أن جمهور نظام الأسد ما زال يواصل استخدامها حتى يومنا هذا.
ارتبط المفهوم تاريخيًا بانتهاكات جماعية ضد النساء في أزمنة الغزو والصراع. ففي الذاكرة الإسلامية، تُعد واقعة سبي زينب بنت علي – شقيقة الإمام الحسين – من أبرز الحوادث التي تُنقل لترسخ هذا المفهوم بوصفه رمزًا للانكسار. بعد واقعة كربلاء عام 680 م، اقتيدت زينب ونساء أهل البيت -وفق المرويات الشيعية- من كربلاء إلى الكوفة، ثم إلى دمشق، في مشهد تنقله المرويات بوصفه مهينًا، إذ عُرضن بلا حجاب أمام العامة، وسط استعراض سلطوي هدف إلى كسر الخصوم وإذلالهم.
ومع الزمن، تحولت هذه الحادثة إلى رمز ثقافي يُستعاد عبر الأجيال في مناسبات عديدة، غالبًا بصيغة وجدانية تتعلق بالكرامة والعدالة والانتهاك. هذه الرمزية لم تبقَ ضمن حدود الشعائر أو الذكرى، بل جرى توظيفها سياسيًا في مراحل مختلفة من التاريخ، وأعيد تفعيلها في الصراع السوري المعاصر. فقد ظهر منذ بداية الحرب شعار “لن تُسبى زينب مرتين” في الخطاب التعبوي للفصائل والجماعات المسلحة التابعة لإيران، في إشارة إلى حماية مقام السيدة زينب في دمشق. استخدم الشعار، المحمّل بإرث تاريخي عاطفي، كنداء تعبئة لحشد المقاتلين وشرعنة التدخل في المعركة، عبر ربطها بخط زمني يختزل المعركة كامتداد لمعاناة قديمة.
إلا أن هذا التوظيف – وإن حمل بعدًا وجدانيًا لدى البعض – سرعان ما تجاوز حدوده الرمزية، ودخل في مساحات الاستقطاب السياسي والإعلامي. في هذا السياق، بدأ مفهوم "السبي" يُستعمل بشكل متكرر في الخطاب الإعلامي الرسمي والموالي لنظام الأسد، لا للإشارة إلى حوادث موثقة، بل كأداة لتقليب الرأي العام وبث الخوف. فقد روّجت منصات إعلامية لروايات تزعم اختطاف فتيات وبيعهن في “أسواق نخاسة” مزعومة داخل مناطق المعارضة، خاصة بعد توسع سيطرتها على أجزاء واسعة من الشمال السوري، فهذه الشائعات – رغم نفيها – تؤدي وظيفتها لدى مروّجيها: إذ تعزّز مخاوف الأقليات وتجعل أي حديث عن تقارب أو انتقال سياسي أمرًا صعب القبول، ما دامت صورة المعارض الإرهابي سابي النساء ماثلة في الأذهان.
أعاد تنظيم "داعش" في عام 2014 مفهوم السبي من طيات التاريخ إلى واقع ميداني مروّع، من خلال سياسة ممنهجة استهدفت نساء الأقليات الدينية في العراق وسوريا، وعلى رأسهم الإيزيديات. عقب اجتياحه لمنطقة سنجار، نفّذ التنظيم مجازر بحق الرجال، وأسر آلاف النساء والأطفال، معلنًا بفخر أنه يطبّق ما اعتبره "سنة ماضية" في معاملة نساء "المشركين" كغنائم حرب. وقد سوّق لهذه الممارسة عبر مجلة دابق، التي قدّمت تبريرات تعتبر أن السبي واجب مهمل في العصر الحديث، وأن بعثه جزء من مشروع إقامة "خلافة إسلامية أصيلة"، في تجاهل كامل للمواثيق الدولية والقيم الإنسانية.
حين عادت ميرا جلال ثابات إلى منزلها، لم تخرج من سوق نخاسة أو من ظلمة مجهولة كما صُوّرت في الادعاءات المتداولة. لكنها اتخذت قرارًا شخصيًا وأخفته، فخرجت وتزوجت، ثم عادت. لكنها حين تحدثت، لم يكن هناك من يستمع. فقصتها التي لم ترويها سبقتها إلى الجمهور، بصيغ مشحونة وجاهزة: اختطاف، وبيع، وسبي، وأجهزة أمن ظلّت تراقبها حتى بعد العودة. حتى كلماتها الشخصية التي أكدت فيها أنها لم تُجبر على شيء، لم تغيّر مسار السرد. الادعاءات التي أُثيرت حولها انتشرت، لا بوصفها قضية، بل كأداة توظيف: قصة وُظّفت في خطاب التخويف، قبل أن تُفهم كحالة إنسانية.
ما جرى مع ميرا ليس مجرد حادث فردي، بل مثال يوضح كيف تُختزل قضايا النساء في مناطق النزاع إلى رموز تُستخدم في الخطاب السياسي أكثر مما تُفهم في سياقها الإنساني. فالادعاءات المرتبطة بالسبي لم تُطرح بوصفها اتهامات قابلة للتحقق، بل كمفاهيم مشحونة تُستدعى لتأليب جمهور، أو ترسيخ انطباع عن فوضى أخلاقية. وفي هذه العملية، يُستبدل صوت المرأة التي عاشت التجربة بتحليلات الآخرين عمّا جرى لها. وهكذا، تتحول حكاية شخصية — بخياراتها وتعقيداتها — إلى مجرد مادة تعبئة، لا تتسع فيها الحقيقة، ولا تُمنح فيها الضحية فرصة للشرح، بل تتحول فقط إلى عنوان ضمن معركة لا تخصها.
منذ سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024، شهدت البلاد تصاعدًا ملحوظًا في حالات اختفاء النساء، مما أثار قلقًا واسعًا في الأوساط الاجتماعية والإعلامية. في ريف طرطوس، انتشر مقطع فيديو لسيدة من قرية بيت شنتة تناشد فيه الكشف عن مصير أبنائها الثلاثة: حمزة ولبنى ولانا حمود، الذين انقطع الاتصال بهم في 23 آذار/ مارس. كما أثارت قضية اختفاء بتول عارف حسن من صافيتا جدلاً واسعًا، بعد أن أعلن شقيقها عن فقدان الاتصال بها في 13 نيسان/ أبريل، وتداولت منصات التواصل الاجتماعي أنباء عن وجودها في محافظة الرقة، دون تأكيد رسمي.
ومن بين هذه الحالات، اختطاف الدكتورة رشا ناصر العلي، أستاذة الأدب العربي في جامعة حمص وعضو اتحاد الكتاب العرب، في 20 كانون الثاني/ يناير 2025 أثناء توجهها إلى عملها. أثارت هذه الحادثة غضبًا واسعًا في الأوساط الثقافية والأكاديمية، خاصة بعد تداول ادعاءات عن العثور على جثتها مشوهة، وهو ما نفته السلطات المحلية وأكدت استمرار التحقيقات.
في المقابل، ظهرت روايات تنفي حدوث عمليات الاختطاف والسبي، حيث ظهرت على الإعلام الرسمي بعض ممن أثيرت حولهنّ مخاوف الاختطاف، ليؤكدن أنهن غادرن منازلهن بمحض إرادتهن. من بين هذه الحالات، قصة آية طلال قاسم، التي انتشرت فيديوهات لها وهي تتحدث مع أهلها عبر الهاتف، مما أثار شبهة اختطافها. لاحقًا، أعلنت السلطات أن آية سافرت إلى حلب للعمل في مشغل خياطة، وأنها تعرضت للضرب والإجبار على العمل، مؤكدة أن الفيديوهات التي روجت لاختطافها كانت مفبركة. كذلك، ظهرت سيما حسنو، التي اختفت من القرداحة، على الإعلام الرسمي موضحة أنها ذهبت إلى جرمانا للقاء أهلها، وأنها تعرضت لخديعة قبل أن تعود إلى منزلها.
هذه الحالات لم تكن حديثة العهد على الساحة السورية، بل سبقتها حوادث مشابهة في ظل حكم نظام الأسد، في حادثة تحولت لقضية رأي عام، اختطفت الشابة كريستينا حسن من ريف صافيتا أثناء سفرها إلى دمشق، حيث طالب الخاطفون بفدية قدرها 60 ألف دولار، وهددوا بقتلها وبيع أعضائها. كما نشرت عائلتها صورًا تظهر تعرضها للتعذيب، مما أثار موجة استياء وتضامن واسعة. وفي دمشق، انتشرت مناشدات للبحث عن الشابة جودي زغيبي وغيرها من الحالات المشابهة، فقدن في ظروف غامضة، دون أي معلومات مؤكدة عن مصيرهن.
وفي شمال شرقي سوريا، أفاد تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش بتاريخ 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أن سبع حالات اختطاف لقاصرين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عامًا جرت على يد "حركة الشبيبة الثورية" المرتبطة بقوات سوريا الديمقراطية، بهدف تجنيدهم في معسكرات تدريب عسكرية، دون علم أو موافقة عائلاتهم.
في السياق السوري، تتعدد دوافع حالات اختفاء النساء، وتتراوح بين خلافات أسرية وضغوط اجتماعية، واختطاف بدافع الفدية أو الاتجار بالبشر، وبين حالات إخفاء قسري للنساء نفّذها نظام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية، بلغ عددها 8979 حالة وفق أحدث تقرير أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، منهنّ من أثارت قصصهن التي بقيت مجهولة المآل الكثير من التعاطف، كالدكتورة رانيا العباسي التي أُخفيت قسرياً مع أطفالها الستة، في مشهد أكثر تعقيدًا من السرديات التي تربط الظاهرة حصريًا بمفاهيم مثل "السبي". تقارير حقوقية، بينها ما نشرته منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"، وثقت حالات اختطاف لنساء وأطفال في الجنوب السوري أُفرج عن بعضهم مقابل فدية، فيما بقي مصير آخرين مجهولًا. كما أفاد صندوق الأمم المتحدة للسكان بارتفاع معدلات الاتجار بالبشر في سوريا، لا سيما استغلال النساء والفتيات جنسيًا أو في أعمال قسرية، ما يكشف عن شبكة أوسع من العوامل التي تحيط بهذه الظاهرة وتُبرز ضرورة تفكيكها بقراءة اجتماعية واقتصادية دقيقة، لا باسقاطات دعائية أو مفاهيم دينية مجتزأة.