تشهد الساحة السورية في فترات التوتر الأمني والأزمات المفصلية تصاعدًا ملحوظًا في الخطاب الإعلامي الموجّه ضد السلطة السورية الحالية. وتبرز في هذا السياق حملات دعائية مضللة تقودها قنوات إعلامية وصفحات على مواقع التواصل الإجتماعي، تتبنّى روايات غير موثقة وتعمل على تضخيم الوقائع أو اختلاقها، في محاولة ممنهجة للتأثير على الرأي العام وزعزعة الثقة بالمؤسسات الحكومية. تتكرّر هذه الأنماط كلما دخلت البلاد مرحلة حساسة، ما يعكس نمطاً متعمّداً من الاستهداف الإعلامي، يُوظَّف فيه التضليل كأداة لفرض سرديات سياسية وأمنية تخدم أجندات محددة.
تستخدم بعض الوسائل الإعلامية، خاصة المنحازة سياسيًا، ما يمكن وصفه بـ"الدعاية السوداء"، وهي شكل من أشكال التضليل الإعلامي يقوم على اختلاق أخبار درامية أو مصيرية تهدف إلى إثارة الصدمة والتشويش، دون أن تستند إلى مصادر حقيقية أو أدلة واضحة. تُبث هذه الأخبار غالبًا على شكل "عاجل"، وتُربط بأسماء وشخصيات حساسة مثل الرئاسة، الدفاع، أو الإعلام، ويُسحب بعضها لاحقًا دون تقديم أي اعتذار أو توضيح، بعد أن تكون قد أحدثت أثرًا نفسيًا في الجمهور. وتُستخدم هذه الأساليب غالبًا في لحظات التوتر والاضطراب، كأداة لإضعاف الثقة بالسلطة وزرع مشاعر الفوضى أو الانهيار.
ما نشرته قناة "الميادين" في ساعات الفجر الأولى من يوم الخميس 18 تموز/يوليو 2025، عبر نشراتها المتلفزة وصفحاتها الرسمية، كان مثالًا واضحًا على هذا النوع من الدعاية، عندما ادّعت أن الرئيس السوري أحمد الشرع غادر العاصمة دمشق برفقة عائلته، وأن فرقة عسكرية دخلت مبنى الإذاعة والتلفزيون لتتسلم السيطرة عليه، إلى جانب إعلان اغتيال ثلاث شخصيات رفيعة من الحكومة، بينهم وزير الدفاع مرهف أبو قصرة. وحُذف الخبر لاحقًا من جميع منصات القناة دون إصدار أي توضيح أو اعتذار. وما جعل هذه الكذبة أكثر قابلية للتصديق لدى البعض، هو تزامنها مع توقف مؤقت في بث قناة الإخبارية السورية خلال نفس التوقيت، ما استُغل كعامل معزّز لمصداقية الرواية الكاذبة، في محاولة لبناء مشهد وهمي يوحي بانهيار فعلي في مؤسسات الدولة.
تندرج بعض الروايات التي تروّجها منصات مناهضة للسلطة السورية الجديدة ضمن نمط يُعرف في الدراسات الإعلامية والسياسية بدعاية استغلال الأزمات، وهو شكل من أشكال الدعاية التي تقوم على اختلاق أو تضخيم وقائع قتل جماعي أو تصفية ميدانية، بهدف إثارة الرأي العام وزعزعة الثقة بمؤسسات الدولة.
وتُستخدم في هذا النمط صور حقيقية من مناطق النزاع، لكنها تُنتزع من سياقها، وتُرفق بسرديات عاطفية ومضللة، ما يخلق مشهدًا دراميًا متخيّلاً يخدم أهدافاً سياسية. هذا النوع من الدعاية يتكرر خصوصاً في سياق الاقتتال، عندما يضعف تدفق المعلومات الرسمية وتتزايد قابلية الناس لتصديق الروايات الصادمة.
ومن الأمثلة البارزة على هذا الأسلوب، ما تم تداوله في 16 تموز/يوليو 2025، حول ما سُمّيت "مجزرة مشفى السويداء"، حيث انتشرت صورة تُظهر مجموعة من أفراد الكادر الطبي جالسين في أحد ممرات المشفى، أرفقت بتعليق يزعم أنهم جميعًا قُتلوا، بالتزامن مع تداول رواية عن مقطع فيديو يُظهر جثثًا مكدّسة في غرف الإسعاف والممرات، صوّره عنصر من الفصائل الحكومية وهو يردّد شعارات دينية.
لكن شهادات محلية من داخل السويداء، إلى جانب تأكيدات من مصادر حكومية، نفت بشكل قاطع حصول أي عملية تصفية داخل المشفى، وأوضحت أن الجثث المتداولة تعود لضحايا الاشتباكات العنيفة، ومن بينهم عناصر في الجيش السوري والأمن العام. كما لم يُسجَّل أي استهداف للكادر الطبي الظاهر في الصورة.
في أوقات التوتر، تلجأ بعض الجهات الإعلامية إلى دعاية التخويف، وهي أسلوب يستند إلى نشر روايات متكررة كاذبة عن تهديدات خارجية وشيكة، لخلق حالة ذعر جماعي وتشويش على الأحداث الداخلية. هذا النمط من الدعاية يستهدف إضعاف ثقة الجمهور بالسلطة القائمة، عبر الإيحاء بأنها خاضعة أو عاجزة أمام أطراف دولية، مستغلًا رمزية العدو الخارجي في الوعي الشعبي السوري.
كما ادعى المرصد السوري لحقوق الإنسان وعدد من الحسابات على مواقع التواصل الإجتماعي يوم الإثنين 14 تموز/يوليو 2025، بأن إسرائيل أمهلت سوريا حتى الساعة 12 للانسحاب من مناطق جنوبية استعادتها قوات وزارة الدفاع. وقد انتشر الادعاء تزامنًا مع العملية الأمنية في السويداء، ما عزز وقع الرواية في أوساط المتلقين. لكن تحققًا موسّعًا أجرته منصة تأكد بلغات متعددة، شمل حسابات المسؤولين الإسرائيليين ووسائل الإعلام، أكد أن الادعاء لا أساس له من الصحة.
في خضم الأحداث المتسارعة، لا يقتصر الصراع على الأرض، بل يمتد إلى الفضاء الرقمي حيث تُشنّ حملات دعائية تستهدف وعي الأفراد وثقتهم بمحيطهم. تتكاثر الأخبار الكاذبة والروايات المفبركة تحديدًا في لحظات الأزمات، لأنها تجد فيها بيئة خصبة للانتشار مستفيدة من القلق العام، وضعف تدفق المعلومات الموثوقة. ولهذا يصبح الجمهور نفسه في كثير من الأحيان هدفًا لهذه الحملات، عبر استثارة عواطفه، وتوجيه إدراكه نحو سرديات تخدم أجندات غير معلنة.
من هنا، تبرز أهمية بناء وعي إعلامي جماعي يرفض التلقّي السلبي، ويُخضع أي رواية للفحص والتساؤل. فالتريّث، والتحقق، وفهم السياق، لم تعد مجرد مهارات إضافية، بل أدوات ضرورية لمقاومة التلاعب بالحقائق. وكلما ازداد وعي الأفراد بخلفيات الرسائل الإعلامية وأساليب التضليل المستخدمة، قلّ تأثير هذه الدعايات، وتقدّمت مجتمعاتهم خطوة نحو استقرار يستند إلى الحقيقة لا إلى الخوف أو الفوضى.