بين الشهادات الرسمية والمعلومات غير الموثقة: ماذا جرى في مشفى السويداء الوطني؟

رافي برازي
calendar_month
نشر: 2025-08-11 , 8:31 م
edit
تعديل: 2025-08-13 , 8:29 م

انتشر على نطاق واسع مقطع فيديو صادم يُزعم أنه يوثّق اقتحام مسلّحين تابعين للحكومة السورية لمشفى السويداء الوطني وتنفيذ إعدام ميداني بحق أحد كوادره الطبية. وأثار المقطع، منذ ظهوره، موجة من الجدل والانقسام على منصات التواصل الاجتماعي، بين من اعتبره دليلاً على انتهاك جسيم للمرافق الطبية، ومن شكّك في صحته وفي طبيعة عمل الشخص الذي ظهر ضحية في التسجيل.

التحقق من صحة الفيديو

بدأ مقطع الفيديو بالانتشار على مواقع التواصل يوم الأحد 10 آب/ أغسطس 2025، في وقت كانت قوات تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية قد غادرت محافظة السويداء. ورغم أن النسخة المتداولة خلت من البصمة الزمنية المعتادة وظهرت بشريط بتاريخ النشر نفسه، حصلت منصة (تأكّد) على نسخ أصلية من تسجيلات كاميرات المراقبة مزودة بالبصمة الزمنية، وأثبتت أن التصوير جرى بتاريخ 16 تموز/ يوليو 2025، أي في خضم الأحداث التي شهدتها المحافظة منتصف الشهر، وذلك بين الساعة الثالثة والخامسة عصراً.

كما أظهرت المقاطع المصوّرة بكاميرا المدخل أن لحظة الإعدام الميداني سبقتها عملية اقتحام نفذها مسلّحون، كان اثنان منهم – على الأقل – داخل المشفى، أحدهما يرتدي زيّ الأمن العام التابع لوزارة الداخلية، والآخر بملابس عسكرية تابعة لوزارة الدفاع. كما لوحظ أن عنصر الأمن العام كان يضع ضمادًا أبيض على يده ويرتدي نعالاً طبيةً، مما أثار تساؤلات حول هويته وتبعيته.

شهادات من كوادر المشفى ومصادر محلية أكدت أن الضحية ليس طبيباً، بل مهندس يُدعى محمد بحصّاص، خريج كلية الهندسة المدنية بجامعة اللاذقية حديثاً، والذي التحق بالكادر الطبي لتعويض النقص في الطواقم الصحية، وفق ما أشارت إليه المصادر. وبحسب هذه الشهادات، اعتدى عليه العنصر المسلح، ما دفعه إلى رد فعل دفاعية انتهت بإطلاق رصاصتين عليه؛ الأولى في الرأس والثانية في القلب، ما أدى إلى وفاته على الفور.

صورة لمسلح لا تعود للضحية

تداولت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لاحقاً صورًا لرجل يرتدي زيًّا أخضر مخصصًا للكوادر الطبية ويحمل سلاحًا من نوع كلاشينكوف، كما ظهر في صور أخرى واقفًا على متن سيارة مزوّدة برشاش ثقيل داخل منطقة سكنية، وزعمت أن هذه الصور تعود لمحمد بحصّاص، الضحية التي قُتلت داخل مشفى السويداء الوطني. هذه الصور جرى تداولها على أنها دليل يربط الضحية بأنشطة مسلحة قبل مقتله، في محاولة لتغيير سياق الحادثة التي وثقتها كاميرات المراقبة.

أجرى فريق (تأكّد) مقارنة بصرية دقيقة بين الصور المتداولة وصور محمد بحصّاص الموثقة قبل الحادثة، إضافةً إلى اللقطات المسجلة بكاميرات المراقبة أثناء عملية الإعدام. أظهرت المقارنة اختلافات واضحة في لون الشعر، حيث بدا أفتح لدى بحصّاص مقارنةً بالشخص المسلح، وكذلك في شكل اللحية التي ظهرت كثيفة وطويلة في الصور المتداولة للمسلح، بينما تبدو أقصر وأخف في صور بحصّاص. كما ظهرت الفروقات في البنية الجسدية وملامح الوجه كالأنف والفك السفلي، إضافة إلى أن بحصاص يستخدم نظارة طبية وهو ما ينطبق على الضحية ولا ينطبق على صاحب الصورة المتداولة للمسلح. ما يدحض أي تطابق بصري بين الشخصين.

 

جدل حول دور الضحية

أثار مقتل محمد بحصّاص جدلًا حول طبيعة عمله في مشفى السويداء الوطني، إذ تشير بعض المعلومات – التي لم تتمكن منصة (تأكّد) من إثبات صحتها – إلى احتمال كونه أحد العناصر المسلحة التابعة للفصائل المحلية الدرزية، أو أنه كان يعمل كمخبر لتلك الفصائل. وبحسب هذه الرواية، فقد تعرف عليه أحد العناصر المقتحمين وطلب منه مرافقتهم، قبل أن تتطور الأوضاع إلى اشتباك قصير انتهى بإطلاق النار عليه. كما أن مهنته الأصلية كمهندس كطبيب وارتداءه الزي الطبي، زادا من الشكوك المحيطة بدوره داخل المشفى. وأمام تضارب هذه الروايات، عادت منصة (تأكّد) إلى الأطباء العاملين في المشفى، الذين شهدوا أن بحصّاص كان ضمن الكوادر التطوعية، يقدم المساعدة في أقسام الإسعاف والعناية الطبية خلال فترة الأحداث.

و أفاد الدكتور عمر عبيد – رئيس فرع نقابة الأطباء في السويداء – أن محمد بحصّاص لم يكن مقاتلًا أو متخفيًا في المشفى، بل كان مهندساً مدنياً حديث التخرج تطوّع للعمل إلى جانب الكوادر الطبية لتعويض النقص الحاد في الطواقم خلال الأحداث الأخيرة. وأوضح أنه شارك في مهام الإسعاف وتنظيم العمل الميداني داخل المشفى، نظراً لتزايد أعداد الجرحى والمصابين. وذكر عبيد أن يوم الحادثة شهد اعتداءات أخرى طالت كوادر طبية، بينهم أطباء، وأن تسجيلات كاميرات المراقبة وثّقت هذه الوقائع. وعند طلب فريق منصة (تأكّد) منه صورًا أو تسجيلات توثّق عمل بحصّاص التطوعي قبل الحادثة، اكتفى بتقديم تعهد خطي يقرّ فيه بانتماء بحصّاص إلى الكوادر التطوعية.

من جانبه، أفاد الدكتور سعيد عفلق – طبيب التخدير في مشفى السويداء الوطني – أنه كان في قسم العمليات عند دخول عناصر الأمن العام إلى المشفى يوم الأربعاء حوالي الساعة الرابعة عصراً. وبحسب شهادته، فإن العناصر توجّهت إلى الطابق الأرضي حيث كان بحصّاص موجوداً، وأفاد زملاء له في القسم نفسه بأنهم شاهدوا عناصر الأمن يجمعون موظفي الإسعاف والعناية الإسعافية، قبل أن يحصل الاعتداء على بحصّاص وإطلاق رصاصتين عليه؛ الأولى في الرأس والثانية في القلب، ما أدى إلى وفاته فورًا.

وأوضح عفلق أن بحصّاص كان متطوعًا في الإسعاف، يؤدي مهام الدعم والمساعدة في ظل ظروف إنسانية بالغة الصعوبة، حيث كان المشفى يواجه حصاراً خانقاً ونقصًا في الغذاء والدواء، مع تدفق مئات الإصابات والضحايا خلال أيام متتالية.

وتتطابق روايات الشهود في المشفى مع ما أفادت به سما – وهي إحدى الكوادر الطبية في مشفى السويداء الوطني – خلال ظهورها في تقرير بثّته القناة الرابعة البريطانية حول أحداث السويداء قبل 11 يوم من بث الفيديو. فذكرت الحادثة التي تعرّض لها الكادر الطبي، وبينهم المهندس محمد بحصّاص، وأوضحت أن عناصر يرتدون الزي الأسود الخاص بالأمن العام احتجزوا نحو 30 فردًا من الكوادر داخل المشفى. وخلال المقابلة، حملت هاتفها المحمول وأظهرت صورته مؤكدة أنه كان من بين المحتجزين. وبحسب روايتها، تعدّى أحد العناصر على بحصّاص، ما دفعه للدفاع عن نفسه، قبل أن تنتهي المواجهة القصيرة بإطلاق النار عليه، ما أدى إلى مقتله على الفور.

تأخر الحصول على تسجيلات الكاميرات

أوضح الدكتور عمر عبيد – رئيس فرع نقابة الأطباء في السويداء – أن تسجيلات كاميرات المراقبة في مشفى السويداء الوطني كانت موصولة منذ سنوات على أقراص تخزين خارجية، تُحفظ في مواقع منفصلة عن المشفى، مثل مدرسة التمريض، بهدف تأمين نسخة احتياطية دائمة. وأكد أن هذه الكاميرات كانت تعمل لحظة الحادثة، ووثّقت عملية اقتحام المشفى وإعدام محمد بحصّاص بكامل تفاصيلها وهو يرتدي اللباس الأزرق الخاص بالكادر الطبي. وبيّن أن المقاطع لم تُعرض على العلن فورًا، إذ ارتأى المعنيون الاحتفاظ بها لحين وصول جهة تحقيق محايدة، حيث جرى لاحقًا التحقق من توقيت التصوير ومطابقته لوقت دخول المسلحين، إلى جانب جمع البيانات التقنية وشهادات الكادر الصحي.

وكشف الدكتور عمر عبيد أن أحد المفاتيح الأساسية للوصول إلى هذه التسجيلات كان بيد وائل عزام، الموظف في مديرية الصحة، والذي قُتل في مكتبه بعد رفضه تسليم المقاطع أو الأكواد الخاصة بها لعناصر الأمن العام الذين اقتحموا مبنى المديرية يوم الحادثة. وأوضح أن عزام كان الموظف الوحيد الموجود في المبنى أثناء الاقتحام، وأن مصيره ارتبط مباشرة بمحاولته حماية المواد المصورة. وجاء انتشار خبر مقتله بعد ساعات من تداول خبر مقتل محمد بحصّاص، ما أضاف بعداً جديداً لحالة الجدل حول الحادثتين. وعند طلب فريق منصة (تأكّد) نسخة من التسجيلات، أحال عبيد الفريق إلى الدكتور أسامة قندلفت – مدير صحة السويداء – لمتابعة الملف.

من جانبه، أفاد قندلفت أن الجهة الوحيدة المخوّلة بالفيديوهات هي اللجنة القانونية العليا المشكلة من قبل الرئاسة الروحية للموحدين الدروز، والتي حضرت إلى المديرية قبل نحو عشرين يومًا من نشر الفيديو، واستلمت كامل منظومة الكاميرات، بما في ذلك الأقراص التي تحتوي على التسجيلات وأي مواد أخرى مرتبطة بأحداث السويداء. وأوضح أن اللجنة لم تسمح لمديرية الصحة بمشاهدة المقاطع، وأنها تولّت وحدها تحديد توقيت نشرها على فيسبوك، مؤكدًا أن المديرية لم تتدخل في أي مرحلة من مراحل التعامل مع المواد المصورة، وأن اللجنة هي المتحكمة الكاملة بمسار الملف.

وحتى تاريخ إعداد هذا التقرير، لم تتمكن منصة (تأكّد) من الحصول على أي تسجيلات مصورة أو صور توثّق عمل محمد بحصّاص التطوعي داخل المشفى، أو تثبت أي صلة له بالفصائل المسلحة في السويداء. جاء ذلك رغم التواصل مع اللجنة القانونية العليا ومديرية صحة السويداء، وكذلك مع ممرضين كانوا على تعامل يومي مباشر مع بحصّاص بعد أن أحيل فريق المنصة للتواصل معهم، إلا أن جميع هذه المحاولات لم تسفر عن أي رد أو توضيح رسمي، مع امتناع هذه الجهات عن التعاون بحجة عدم امتلاكهم جواباً أو صلاحية للتعامل مع المنصة.

الرد الحكومي على القضية 

أصدرت وزارة الداخلية السورية بيانًا عبر معرفاتها الرسمية ردًا على تداول مقطع الفيديو الذي قيل إنه صُوّر داخل المشفى الوطني في السويداء، مؤكدة أنها "تتابع الفيديو المؤلم المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي". وأدانت الوزارة الحادثة بأشد العبارات، مشددة على أن الفاعلين سيُحالون إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل بغض النظر عن انتماءاتهم. كما أوضحت أنه، بتوجيه من وزير الداخلية، كُلّف اللواء عبد القادر الطحان – المعاون للشؤون الأمنية – بالإشراف المباشر على مجريات التحقيق، بهدف الوصول إلى الجناة وتوقيفهم بأسرع وقت ممكن.

وفي سياق المتابعة، وجّهت منصة (تأكّد) استفسارات إلى وزارتي الداخلية والدفاع تضمنت أسئلة حول ما إذا جرى التعرف على الأشخاص الظاهرين في التسجيلات، وإن كانوا من العناصر التابعة لوزارة الدفاع، وإلى أي وحدة أو جهة يتبعون، وما إذا كان توقيت المقطع – نحو الساعة الرابعة عصرًا – يتطابق مع فترة تواجد عناصر الوزارة في الموقع يوم الحادثة، بالإضافة إلى أي معلومات إضافية يمكن أن تساهم في توضيح ملابسات القضية. وحتى تاريخ إعداد هذا التقرير، لم تتلقَّ المنصة أي رد رسمي على هذه الأسئلة.

سلطة أمر واقع في السويداء

أعلنت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز بقيادة الشيخ حكمت الهجري، في السادس من آب/ أغسطس 2025، عن تشكيل اللجنة القانونية العليا في السويداء على خلفية التصعيد الأمني الذي شهدته المحافظة. ضمّت اللجنة قضاة ومحامين محليين، وأسندت إليها مهام إدارة القطاعات الإدارية والأمنية والخدمية، والحفاظ على المؤسسات العامة والخاصة، ومتابعة ملفات المفقودين والانتهاكات، إضافة إلى الإشراف على القضايا الصحية والتعليمية والاقتصادية. كما شكّلت مكتباً تنفيذياً مؤقتاً لتوزيع المهام على شخصيات محلية، وأصدرت قرارات بتعيين قيادات في قوى الأمن الداخلي، في محاولة لتعزيز حضورها كسلطة موازية للحكومة المركزية.

وبحسب مصادر محلية، تمارس اللجنة صلاحيات واسعة تجعلها بمثابة سلطة أمر واقع في السويداء، وتتخذ قراراتها بمعزل عن حكومة دمشق. تشير هذه المصادر إلى أن بعض الشخصيات داخل اللجنة أو المقربة منها معروفة بولائها لنظام الأسد المخلوع، ومن بينهم ضباط سابقون في قواته، مثل العميد شكيب أجود نصر الذي كُلّف بقيادة قوى الأمن الداخلي في المحافظة، والعميد أنور عادل رضوان المعيّن معاونًا له، إلى جانب معلومات تفيد بأن الأخير شغل سابقاً موقعًا أمنياً في مدينة بانياس واتُّهم بارتكاب انتهاكات، فيما يُوصف الأول بأنه ضابط بارز من عهد النظام ومتهم بجرائم حرب، كما تحظى اللجنة بدعم ضمني من الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية، ما يعكس مزيجًا معقدًا من التحالفات المحلية والإقليمية يزيد من تشابك المشهد السياسي والأمني في المحافظة.

لماذا تأكد؟!

منصة تأكد منصة مستقلة وغير متحيزة متخصصة بالتحقق من الأخبار والمعلومات تأسست في سوريا أوائل عام 2016 لمواجهة انتشار المعلومات المضللة.

معتمدة من:

certified

دليل التحقق

certified

شاركنا لنتأكد

© جميع الحقوق محفوظة لمنصّة تأكّد 2025