مع سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، حدثت طفرة في الساحة المعلوماتية السورية، غيّرت على إثرها الكثير من المنصات والصفحات في مواقع التواصل توجهها ونشاطها، مستفيدة من فوضى المرحلة الأولى لتحرير البلاد، وغياب الإعلام الرسمي وما خلّفه من شح في الروايات المتماسكة حول بعض الأحداث الجارية، أو البطء في تغطيتها.
المحتوى الذي يتضمن مزيجاً من الحقائق والأكاذيب.
صفحاتٌ كانت تؤيد نظام الأسد تحولت لتقديم محتوى يدعم الإدارة الجديدة، وأخرى كانت تنتج محتوى ترفيهي ومنوع، صدّرت نفسها فجأة على أنها منصات إخبارية. يثير هذا النوع من الصفحات إشكاليات عميقة، إذ تديرها جهات مجهولة تفتقر للمهنية التي تخوّلها إنتاج محتوى رصين يلتزم بالمعايير الصحفية، كما ترتكز على ضخ محتوى ممزوج بالكذب والتضليل لتحصد التفاعل من قاعدة جماهيرية بنتها سابقاً؛ تبرز هنا صفحة "سوريا الغد" نموذجاً تتناوله منصة (تأكّد) بالرصد والتحليل.
تُصنف صفحة "سوريا الغد" كمنتجة مقاطع فيديو قصيرة "Reels creator"، وتملك عدداً متوسطاً من المتابعين، وتبدو واجهتها غير احترافية، إذ تستخدم صورة غلاف بشعار لا ينتمي لهويتها الحالية. كما تتابع الصفحة مجموعة من الصفحات المنتحلة والمساهمة في نشر المحتوى المضلل، مثل "ردع العدوان" و"إدارة العمليات العسكرية" و"جهاز الأمن الداخلي".
تحمل الصفحة اسم المستخدم "Coorba.jo"، وأظهر البحث صفحة مشابهة تحمل اسم المستخدم ذاته وتُسمى (كوربا)، كما أظهرت معاينة الصفحتين تشاركهما بمنشورات متطابقة عام 2024.
تُظهر المراجعة أن صفحة "سوريا الغد" أُنشئت نهاية عام 2021، ويديرها ثلاثة أشخاص تشير البيانات أنهم في الأردن. حملت الصفحة عند إنشائها اسم (Lady product)، ثم تغيّر عام 2023 إلى (كوربا) و(Q-عربية) و(عراق الحدث)، ليعاد تغييره مراراً إلى مسميات تشير لطابع ترفيهي، حتى تغيّر يوم سقوط نظام الأسد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 إلى "سوريا الغد".
واكب تغيّر الاسم تغيّرات متوافقة في صورة الملف (Profile pictures) كما يُظهر أرشيف الصفحة، لكن الاسم والشعار المستخدمين حالياً يسببان الالتباس، إذ كشف البحث أنهما مأخوذان من "مؤسسة سوريا الغد للإغاثة"، بينما لا يشير موقع المؤسسة إلى هذه الصفحة كمنصة رديفة له.
يزداد الالتباس إذ سبق أن أُنشئت قناة تلفزيونية حملت اسم "سوريا الغد" مع تصاعد أحداث الثورة السورية، ما يوحي بارتباط الصفحة الحالية بوسيلة إعلامية معروفة ويمنحها مصداقية زائفة.
يذكر أن القناة توقفت عن العمل منذ سنوات وكان آخر نشاط لها على منصة X في عام 2015.
يُشير التدقيق في سجل الصفحة إلى تغيّرات واضحة في مسار النشر والتفاعل، أخذت منحى حاداً منذ تاريخ سقوط نظام الأسد، فالتحول الطارئ على المنشورات بدأ بنشر المحتوى الساخر من عائلة بشار الأسد ومناصريهم، ليصل إلى تغطية الأحداث ذات الصلة بالشأن السوري بأسلوب يشابه عمل المنصات الإخبارية.
ارتكز المحتوى المقدم في الصفحة منذ إنشائها على المواضيع الساخرة أو أخبار الشخصيات العامة، وهو محتوى غير أصيل تغلب عليه رداءة الجودة والتكرار، ويهدف إلى جذب التفاعل.
وتعتمد الصفحة في محتواها الحالي على إعادة نشر الفيديوهات المتداولة سريعة الانتشار، أما المحتوى الأصلي الذي تقدمه فينقسم إلى شقين؛ يُقدَّم الأول في قوالب ثابتة لتغطية الأحداث ونقل التصريحات المتعلقة بالشأن السوري، ويُلاحظ أن التصريحات غالباً ما تكون مثيرة للجدل ومتسمة بالغرابة، مع التركيز مؤخراً على تصريحات منسوبة لشخصيات إيرانية.
أما الشق الثاني فيُقدَّم كنشرات إخبارية وتقارير، يذيعها شخص ببدلة رسمية، تعرف عنه الصفحة باسم "محمد الكساسبة". وبصورة عامة، تحاول الصفحة إضفاء صفة رسمية ومهنية تقنع الجمهور، عبر اعتماد هوية بصرية تعزّز صورتها كمنصة إخبارية.
رصدت منصة (تأكّد) ادعاءات غير صحيحة نشرتها صفحة "سوريا الغد"، منها تصريح ملفّق نسبته إلى "حكمت الهجري"، إذ زعمت أنه "صرّح بنيّة المشاركة في قمة الدوحة لكنه قدم اعتذاره لأمير قطر لارتباطه باجتماعات أخرى تمنع حضوره"، ومنها تصريحات نسبتها لمسؤولين عسكريين إيرانيين، حول "مطالبة سوريا بسداد الديون المتراكمة لصالح إيران، مع التهديد باللجوء إلى مجلس الأمن"، ولم يُظهر البحث المتقدّم أي نتائج تدعم صحة هذه التصريحات.
تمثل صفحة "سوريا الغد" نموذجاً صارخاً لصفحات استغلت حالة السيولة المعلوماتية التي أعقبت سقوط النظام، وقدّمت نفسها كمنصة إخبارية بينما تفتقر إلى أبسط مقومات العمل الصحفي.
إن استمرار هذا النمط من النشر المضلل يكرّس الارتباك لدى الجمهور ويشوّه النقاش العام، ويؤكد الحاجة الملحّة إلى تعزيز الوعي الرقمي، وتوسيع أدوات التحقق المستقلة، وتشجيع الجمهور على التمييز بين الإعلام المهني والمصادر غير الموثوقة.
إن مواجهة الكذب والتضليل معركة لا تقل أهمية عن أي مواجهة أخرى، إذ تستهدف وعي الناس وإدراكهم للواقع. وما لم يُحصَّن الفضاء المعلوماتي بالمساءلة والالتزام بالمعايير المهنية، ستبقى هذه الصفحات قادرة على تشويه الحقائق وصياغة روايات بديلة زائفة.