هذه المشاهد لا توثق لحظة غرق سفينة بريطانية نتيجة...
الأربعاء 20 تشرين ثاني - احتيال
أحمد بريمو الاثنين 22 شباط 2021
في الذكرى الخامسة لتأسيس منصة (تأكد)، يروي لكم القلب، لا أنا، حكاية حُلْمٍ رأى النور عقب ظلمات حالكة، أرهقت السوريين جميعاً، وأنا بلا شك واحدٌ منهم.
أنا من امبراطورية الزيف، من بلد حتى اسمه لم يسلم من التزييف، كان اسمه (سوريا) وصار اسمه في نحو نصف قرن من حكم نظام الأسديْن، الأب والابن، (سوريا الأسد)، كان هذا التزييف عقيدة هذا النظام. أجزم لكم أن السوريين ما ثاروا لأجل رغيف خبز، بل ثاروا على ذاك الزيف، الذي شوّه كل مجالات الحياة.
منذ ذلك الحين، كانت تهيمن عليّ فكرة أن جوهر هذه الثورة هو الانتصار للحقيقة، هذه الفكرة نحتت لديّ ملامح الإجابة عن سؤال كان يراودني بشغف:
كيف أكون صحفياً، ولأجل ماذا؟ الإجابة وجدتها في أن أكون صحفياً ملتزماً بالحقيقة، والبحث والدفاع عنها متحدياً كل الصعوبات.
بعد أن خلع السوريون عنهم ثوب الخوف وانتفضوا، في آذار عام 2011، ووصل الصوت والغضب الهادر إلى مدينتي حلب، بدأت بتغطية المظاهرات شيئاً فشيئاً، محاولاً الانتصار للحقيقة والوقوف في وجه سيل من الأكاذيب والادعاءات التي كان يبثها إعلام النظام الرسمي. اعتقلني النظام ثلاث مرات، وقدر الله لي النجاة في المرات الثلاث.
منتصف عام 2013 انتقلت إلى الشطر الشرقي من مدينة حلب، وكانت حينها تحت سيطرة الجيش السوري الحر، لأعتقل مرة رابعة في تشرين الثاني 2013، ولكن هذه المرة على يد تنظيم داعش، وحُكمت بالإعدام، لكن إرادة الله كانت أمضى ومعها همة الثوار الأصلاء، وبعد 52 يوماً قضيتها في سجون التنظيم، قدر الله لي الهرب، والنجاة مرة أخرى.
بذرة تأكد الأولى
بعد أقل من ٤٨ ساعة من نجاتي من سجون التنظيم، تنظيم الرعب والبشاعة المسمى داعش، قرأت منشوراً يتضمن ادعاءات لهذا التنظيم، المنشور تضمن تسجيلاً مصوراً يظهر جثة رجلٍ قالوا إنه "مجاهد ستينيّ جزائري قتلته الصحوات". -والصحوات مصطلح مستورد من العراق تشير فيه داعش إلى الفصائل التي تحاربها متهمة إياها بأنها تتبع دولا "غربية"-.
حين شاهدت التسجيل، نظرت ودققت فيه عدة مرات، ثم صرخت: والله هذا كذب، الجثة هي لرجل اسمه (أبو محمد الكياري)، رجل ستيني كان معي في السجن طيلة 52 يوماً من الاعتقال، نعم إنه هو، ومن أعدمه هو تنظيم داعش، "يقتلون القتيل ويمشون في جنازته"، أي فوق البشاعة والإجرام، وقاحة تشبه وقاحة الأسد والأسديين.
على الفور أخذت لقطة شاشة من التسجيل، ونشرت على حسابي في (فيس بوك) شهادتي، ووضّحت هوية الرجل، اسمه وتهمته، وعائلته. لم يكن هناك مجالا للشك بشأنه، وفوجئت بعدها بسيل من الاتهامات، بدأت بالتكفير، وصولاً إلى التهديد بالقتل، ما دفعني لأنتقل مرة أخرى وأسافر إلى أرض اللجوء تركيا.
بعدها اكتشفت أنه لا أحد يريد أن تشيرَ بأصبع مستقيمة لا معقوفة إلى خطئه، وقلت ربما هذه هي ظروف وطبيعة الحروب وما تفرزه من خنادق، إلا أنني قررت وقتها وتحت أي ظرف أن الحقيقة والحقيقة وحدها هي الدرع الواقي لنا ولثورتنا وإنسانيتنا، ولمعت في رأسي فكرة (تأكد) التي بدأت حلماً وصارت حقيقة وواقعاً.
من الحلم إلى الواقع
تأكد، بدأت في مثل هذا اليوم 22 شباط/فبراير من العام 2016 كمنهج وطريقة تفكير، ثم إلى التزام، ولاحقا إلى كلمة تسبق كل استفسار، ثم إلى مشروع، والمشروع كان في بدايته صفحة على الفيس بوك باسم "منصة تأكد".
ولأن الثورة السوريّة أكبر زلازل اجتماعي سياسي أخلاقي عرفته سوريا في تاريخها الحديث، فقد كان طبيعياً وجود جهود جبارة لقتلها أو تشويهها، ولذلك طغى في البداية على منصة تأكد عمليات التحقق من الادعاءات التي يُطلقها هؤلاء، وهم أعداء للإنسانية قبل كل شيء، في انتصارهم وتأييدهم لنظام قتل مئات الآلاف وهجر نصف سكان سوريا.
وبعد التمكن شيئا فشيئا من الأدوات المهنية لهذا النوع من العمل الصحفي، وهو جديد غريب في الفضاء الإعلامي السوري، تنوعت عمليات التحقق، وكان لافتا حين نشرت تحققاً يطال شخصاً ينتمي إلى الثورة السورية يُكذبني طيف من أنصار الثورة، وهنا أيقنت أن صفوف الثورة بدأت تتمايز، بين من يدّعي الانتماء إليها، وبين من لا يزال يمسك بأهداب الثورة الأولى، ثورة الحقيقة، ثورة آذار عام ٢٠١١.
وأيضا، لم ولن أنسى تعليق أحد العاملين في إحدى أكثر القنوات العربية الإخبارية عراقة، حين قمت بتصحيح معلومة وردت في منشور على صفحته، وانتبه في صفحته لا خبرا نشرته القناة التي يعمل فيها، أرسل لي حرفياً يقول: "من أنت وما هي هذه منصة تأكد؟ أنت وهي مجرد كائنات فيسبوكية"، ونسي أن هذا الفضاء كان أداة محورية في بدايات الثورة.
هذا التعليق لم يُحبطني، بل أوقد فيّ شرارة الذهاب خطوة إلى الأمام في هذا النوع من العمل الصحفي، وقررت هنا إنشاء موقع إلكتروني أطلق بتاريخ 15 نيسان/ أبريل 2016.
لا شيء يوقف الحلم
الصحافة الجليلة، لا تكتفي أن ينتمي إليها عشاقها، مهما كانوا متخمين بالقيم والإخلاص، هي تُلح أيضا علينا كي نتعلم. في هذه المهنة لا ساعات محددة للعمل، ولا يوجد عمر محدد يتوقف فيه التعلم، وبالعمل والتعلم مضيت أنا والحالمون أمثالي.
بدأنا نطّلع على تجارب وخبرات المعنيين بالتحقق من الأخبار، ننقل عنهم، نأخذ ما يفيد ونطور تجربتنا الخاصة، وهذا واجب علينا، لأن منصة تأكد هي المشروع الأول من نوعه في سوريا.
لاحقاً بدأ الصديق الصحفي ضرار خطاب، العمل معي، وانتقلنا خطوة ثانية في العمل، نتشارك الهم، طورنا العمل أكثر فأكثر، وبدأت ملامح تجربتنا تتضح بشكل أكبر.
عام 2021، كانت ولادة جديدة لهذا المشروع، من خلال موقع جديد أطلق بداية شهر شباط، موقع يتخصص بالتحقق من المعلومات، يقوم على ركائز ثابتة، من سياسات رصينة، وُضعت بدقة وبجهود ذاتية، ترسخ العمل المنهجي في هذا المضمار، وثقافة التحقق والالتزام بالحقيقة وتعميمها لتصير عنصراً من مكونات المجتمع، في مشاريع وتوجهات تقع في صلب أهداف تأكد.
نأمل أن يكون هذا العام عاما فارقا في تاريخ أول منصة للتحقق من المعلومات في سوريا، من خلال رفد تأكد بفريق أكبر، ومخرجات أكثر تنوعاً وغنى، تخترق أدق تفاصيل مجتمعاتنا، ناشرة الوعي الجمعي والمسؤولية الجماعية لبث الحقائق وكبح التضليل أيا كان نوعه ومنشؤه، وفي جعبتنا من الأفكار الكثير، نأمل ألا يتسبب التمويل بوأدها، فنحن نمسك بيد من جمرٍ على استقلاليتنا.
لنكشف السر
تأكد وإن كانت الإمكانيات بسيطة، بسيطة للغاية، والفريق الذي يقف وراءها يُعد على أصابع اليد الواحدة، هذا المشروع يقف على قدميه بثبات، والسر في ذلك أمرين، الإيمان به، والاستقلالية التامة، التامة قولاً وفعلاً، هذه الاستقلالية هي من تركة الثورة، لأن الالتزام بالحقيقة لا يستوي دون حرية، أي التحرر من الاستقطاب والانحياز وسياسة الخنادق التي تعمل على ذبح الصحافة العربية، ومهمتها النبيلة، من الوريد إلى الوريد.
ما سبق كلمات من القلب، ربما فيها شوائب ونقص، لكن بين طياتها مبدأ نبيل بسيط، إلى حين الوصول للأهداف الكبرى، أود توجيه شكر عميق حقيقي لا مبتذل، إلى متابعي منصة تأكد، الداعمين لها حتى بالنصح والنقد، والشكر لكل من وقف إلى جانبي، زوجتي والأصدقاء والزملاء، وصديق لا يمكن ذكر اسمه لأسباب يضيق شرحها.
© جميع الحقوق محفوظة 2024 - طُور بواسطة نماء للحلول البرمجية