يشهد الملف الاقتصادي في سوريا تطوراً لافتاً بعد الكشف عن خطط حكومية لتغيير العملة المحلية عبر حذف صفرين وطرح أوراق نقدية جديدة. الخطوة، التي تناولتها وكالة رويترز وأكّدتها تصريحات لمسؤولين عبر قناة الحدث، تهدف إلى ضبط السيولة وكبح المضاربات، لكنها سرعان ما أثارت جدلًا واسعًا بسبب هوية الشركة الروسية التي ستتولى عملية الطباعة. وفي هذا التقرير نسلّط الضوء على ما نُشر حول القرار، وعلى الجدل المرتبط بالشركة الروسية، إضافة إلى التداعيات الاقتصادية المحتملة لهذه الخطوة.
نشرت وكالة رويترز في 22 آب/أغسطس 2025 تقريراً موسّعاً كشفت فيه أن الحكومة السورية تستعد لإجراء تغيير في عملتها الوطنية من خلال حذف صفرين من الليرة وطرح أوراق نقدية جديدة ابتداءً من كانون الأول/ديسمبر المقبل. وأوضح التقرير، استنادًا إلى وثائق ومصادر مطلعة، أن الخطة تتضمن فترة انتقالية تمتد حتى نهاية عام 2026 يُسمح خلالها بتداول العملة القديمة والجديدة معًا، في محاولة لتفادي إرباك التعاملات اليومية. وأضافت الوكالة أن هذا التغيير يهدف بالدرجة الأولى إلى تعزيز الثقة بالعملة المحلية وكبح المضاربات التي تضخمت في السنوات الأخيرة، وسط تقديرات بوجود عشرات التريليونات من الليرات المتداولة خارج النظام المصرفي الرسمي.
وفي السياق نفسه، نقلت قناة الحدث عن مستشار في وزارة الاقتصاد السورية تأكيده أن العملة الورقية الجديدة ستطرح في كانون الأول/ديسمبر المقبل، مبينًا أن شركة روسية ستتولى عملية الطباعة، لكنه لم يذكر اسمها. المستشار شدّد على أن الهدف الأساسي من التغيير هو وقف المضاربات المالية وإعادة ضبط حركة السيولة بما ينسجم مع خطة أوسع لإدارة السوق. غير أن الفارق بين ما ورد في تقرير رويترز وما جاء في تصريحات المستشار يكمن في هوية الشركة، إذ أوردت الوكالة اسمها صراحة بينما لم يُشر إليها في حديث الحدث، الأمر الذي فتح الباب واسعًا أمام نقاش وجدل في الأوساط الاقتصادية والإعلامية حول طبيعة هذا التعاقد وأبعاده المستقبلية.
بدأت علاقة النظام المخلوع بشركة غوزناك الروسية في عام 2012، عندما فرضت أوروبا والولايات المتحدة عقوبات واسعة منعته من التعاقد مع الشركات الغربية المتخصصة بطباعة العملة. ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية آنذاك وتراجع السيولة النقدية في الأسواق، لجأ النظام إلى موسكو لتأمين أوراق نقدية جديدة بعيدًا عن القيود الغربية، في خطوة عكست عمق الارتهان لروسيا في واحد من أكثر الملفات الاقتصادية حساسية.
وتشير تقارير متعددة إلى أن عملية الطباعة جرت عبر غوزناك، التي أرسلت شحنات كبيرة من الأوراق النقدية السورية إلى دمشق لدعم السوق المحلي ومنع الانهيار الكامل للتداول. هذا التعاون رسّخ تبعية النظام المخلوع للجانب الروسي، وربط استمرارية التداول النقدي بقدرة الشركة الروسية على توفير بدائل خارج إطار الرقابة والعقوبات الدولية، ما جعل من ملف العملة أداة إضافية بيد موسكو لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في سوريا.
فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة سلسلة من العقوبات على شركة «غوزناك» الروسية، التي تُعد الذراع الرسمي لموسكو في طباعة الأوراق النقدية والوثائق السيادية. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2022، أدرجها الاتحاد الأوروبي على قائمة العقوبات بسبب دورها في طباعة جوازات سفر وبطاقات لمناطق أوكرانية أعلنت روسيا ضمّها بشكل أحادي، وهو ما اعتُبر مساهمة مباشرة في تكريس الاحتلال الروسي لتلك الأراضي. وفي الشهر نفسه، لحقت بها بريطانيا عبر عقوبات مشابهة شملت قيودًا على التعاملات المالية والتجارية مع الشركة.
أما العقوبات الأشد فكانت من الولايات المتحدة في حزيران/يونيو 2024، حين أدرجت وزارة الخزانة الأميركية «غوزناك» على قائمة العقوبات بعد اتهامها بطباعة أكثر من مليار دولار من العملة الليبية لصالح حكومة خليفة حفتر في شرق ليبيا الغير معترف بها دوليًا. واشنطن وصفت تلك الخطوة بأنها تقويض مباشر لجهود الاستقرار في ليبيا ومساهمة في إغراق السوق بعملات غير مصرح بها، ما أدى إلى تفاقم الانقسام النقدي وإضعاف الدينار الليبي. هذه القضايا، مجتمعة، جعلت من «غوزناك» شركة محاصرة دوليًا، ترتبط في الأذهان بملفات التلاعب النقدي وخدمة أنظمة خاضعة للعقوبات.
أعاد تقرير رويترز وتصريحات منسوبة لمستشار في وزارة الاقتصاد السورية عبر قناة الحدث فتح ملف تغيير العملة السورية إلى واجهة النقاش العام، خاصة بعد الإشارة إلى شركة روسية مثيرة للجدل يُزعم أنها ستتولى الطباعة. وزارة الاقتصاد أوضحت في تواصلها مع منصة "تأكد" أنها لا تملك مستشارين، وأن موضوع العملة يدخل ضمن اختصاص وزارة المالية. في المقابل، لم يرد المكتب الإعلامي لوزارة المالية على استفسارات المنصة حتى لحظة إعداد هذا التقرير.
وتزداد خطورة الملف مع ورود اسم شركة "غوزناك"، الخاضعة لعقوبات أميركية وأوروبية وبريطانية. ففي الولايات المتحدة، إدراج الشركة على قوائم وزارة الخزانة يعني أن أي تعامل معها يعرّض البنوك والشركات لمخاطر العقوبات الثانوية وتجميد الأصول. أما في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، فالقوانين تحظر "إتاحة الأموال أو الموارد الاقتصادية" للكيانات المدرجة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا يعني أن طباعة العملة السورية الجديدة عبر "غوزناك" قد يجعلها عرضة للتشكيك منذ البداية، ويثير تساؤلات حول مدى قبولها في التعاملات الخارجية، فضلًا عن احتمال انعكاس ذلك على ثقة المواطنين بها محليًا، ما قد يزيد من نشاط السوق السوداء ويعقّد جهود ضبط المضاربات.