الفيديو لا يوثق احتفال عناصر النظام المخلوع بعد تج...
السبت 22 شباط - احتيال
أحمد بريمو
السبت 22 شباط 2025
بعد منتصف ليل أمس، توجهت إلى سريري محاولًا أن أحظى بقسط من النوم بعد يوم طويل، كان -كغيره من الأيام في الأشهر الثلاثة الماضية- حافلًا بالكذب والتضليل والتلاعب بالحقائق، وهي السمة الأبرز التي باتت تهيمن على الفضاء الرقمي السوري والعربي منذ هروب المجرم بشار الأسد وانتصار الشعب السوري على أحد أكثر الأنظمة دموية وإجرامًا في التاريخ المعاصر.
وتحت وطأة الأرق الذي يلازمني منذ سنوات، فتحت هاتفي وألقيت نظرة على ميزة "في مثل هذا اليوم" التي يوفرها موقع فيسبوك، فاكتشفت -وكأب مقصِّر- أن اليوم يصادف ذكرى ميلاد منصة "تأكد"، ذلك المشروع الذي كان وما زال بمثابة طفلي المدلل، مستحوذًا على الحصة الأكبر من وقتي وجهدي بين أشقائه الثلاثة الآخرين.
وكأي أب مقصِّر أيضًا، حاولت أن أكتب نصًا احتفي به بطفلتي التي كبرت وبدأت عامها التاسع، لكن ضغط المسؤوليات الأخرى -التي لا تخفى على جمهورنا- دفعني إلى إعادة نشر ما كتبته في ذكرى ميلادها الخامسة، دون احتفالات صاخبة أو صور وفيديوهات إبداعية مبهرة. ففي وقت نُسابق فيه أنا وزملائي الزمن للتصدي لحملات الكذب والتضليل، نجد أنفسنا لا نملك تلك الرفاهية التي يمتلكها غيرنا للاحتفالات، في مواجهة تحديات جسيمة تهدد أمن واستقرار وطن وُلِد لتوِّه، مثقلًا بتشوهات خلقية وأمراض وراثية عديدة، تحتاج من جميع أبنائه الحذر في مدارته والتعامل مع كل نفس يصدره.
في الذكرى التاسعة لتأسيس منصة "تأكد"، يروي لكم القلب، لا أنا، حكاية حلمٍ رأى النور عقب ظلمات حالكة أرهقت السوريين جميعاً، وأنا بلا شك واحد منهم.
أنا من إمبراطورية الزيف، من بلدٍ حتى اسمه لم يسلم من التزييف. كان اسمه "سوريا"، ثم صار اسمه، على مدار نصف قرن من حكم نظام الأسديْن، الأب والابن، "سوريا الأسد". كان هذا التزييف عقيدة هذا النظام. أجزم لكم أن السوريين لم يثوروا لأجل رغيف خبز، بل ثاروا على ذاك الزيف، الذي شوّه كل مجالات الحياة.
منذ ذلك الحين، كانت تهيمن عليّ فكرة أن جوهر هذه الثورة هو الانتصار للحقيقة. هذه الفكرة نحتت لديّ ملامح الإجابة عن سؤالٍ كان يراودني بشغف: كيف أكون صحفياً؟ ولأجل ماذا؟
وجدت الإجابة في أن أكون صحفياً ملتزماً بالحقيقة، باحثاً عنها ومدافعاً عنها متحدياً كل الصعوبات.
بعد أن خلع السوريون عنهم ثوب الخوف وانتفضوا في آذار/مارس عام 2011، ووصل الصوت والغضب الهادر إلى مدينتي حلب، بدأتُ بتغطية المظاهرات شيئاً فشيئاً، محاولاً الانتصار للحقيقة والوقوف في وجه سيلٍ من الأكاذيب والادعاءات التي كان يبثها إعلام النظام الرسمي. اعتقلني النظام ثلاث مرات، وقدّر الله لي النجاة في كل مرة.
منتصف عام 2013، انتقلت إلى الشطر الشرقي من مدينة حلب، الذي كان حينها تحت سيطرة الجيش السوري الحر، لأُعتقل مرة رابعة في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، ولكن هذه المرة على يد تنظيم داعش، حيث حُكم عليّ بالإعدام.
لكن إرادة الله كانت أمضى، ومعها همة الثوار الأصلاء. وبعد 52 يوماً قضيتها في سجون التنظيم، قدّر الله لي الهرب والنجاة مرة أخرى.
بعد أقل من 48 ساعة من نجاتي من سجون التنظيم، قرأت منشوراً يتضمن ادعاءات لداعش، مرفقاً بتسجيل مصور يظهر جثة رجلٍ قالوا إنه "مجاهد ستينيّ جزائري قتلته الصحوات".
(الصحوات مصطلح مستورد من العراق، تشير به داعش إلى الفصائل التي تحاربها، متهمةً إياها بأنها تتبع دولاً "غربية").
عندما شاهدت التسجيل، نظرت ودققت فيه عدة مرات، ثم صرخت: "والله هذا كذب!"
فالجثة لرجل أعرفه، اسمه أبو محمد الكياري، رجل ستيني كان معي في السجن طيلة 52 يوماً، ومن أعدمه هو تنظيم داعش نفسه! "يقتلون القتيل ويمشون في جنازته"؛ فوق البشاعة والإجرام، وقاحة تشبه وقاحة الأسد والأسديين.
على الفور، أخذت لقطة شاشة من التسجيل، ونشرت على حسابي في (فيسبوك) شهادتي، ووضّحت هوية الرجل، اسمه وتهمته وعائلته. لم يكن هناك مجال للشك. وفوجئت بعدها بسيلٍ من الاتهامات، بدأت بالتكفير، وصولاً إلى التهديد بالقتل، ما دفعني إلى مغادرة سوريا مجدداً واللجوء إلى تركيا.
حينها، أدركت أن لا أحد يريد أن تشير إليه بأصبع مستقيمة لا معقوفة، وأن هذا جزء من طبيعة الحروب وما تفرزه من خنادق. لكنني قررت، تحت أي ظرف، أن الحقيقة وحدها هي الدرع الواقي لنا، ولثورتنا، ولإنسانيتنا. وهكذا، لمعت في رأسي فكرة "تأكد"، التي بدأت حلماً وصارت واقعاً.
"تأكد" بدأت في مثل هذا اليوم، 22 شباط/فبراير عام 2016، كمنهج وطريقة تفكير، ثم تحولت إلى التزام، ثم إلى كلمة تسبق كل استفسار، ثم إلى مشروع. في بدايته، كان المشروع مجرد صفحة على "فيسبوك" تحمل اسم "منصة تأكد".
ولأن الثورة السورية كانت أكبر زلزال اجتماعي-سياسي-أخلاقي عرفته سوريا في تاريخها الحديث، فقد كان طبيعياً أن تُبذل جهود جبارة لقتلها أو تشويهها. ولهذا، طغت في البداية على منصة "تأكد" عمليات التحقق من الادعاءات التي يطلقها أعداء الثورة، وهم أعداء للإنسانية قبل كل شيء، في تأييدهم لنظام قتل مئات الآلاف وهجّر نصف سكان سوريا.
ومع مرور الوقت، بدأنا نتقن الأدوات المهنية لهذا النوع من العمل الصحفي، وهو مجال جديد وغريب على الفضاء الإعلامي السوري. توسعت عمليات التحقق، ووصل الأمر إلى التحقق من معلومات صادرة عن شخصيات محسوبة على الثورة نفسها. عندها، بدأت صفوف الثورة تتمايز بين من يدّعي الانتماء إليها، ومن لا يزال يمسك بأهدابها الأولى، ثورة الحقيقة، ثورة آذار 2011.
لم يكن الطريق سهلاً. لا أنسى تعليق أحد العاملين في إحدى أكثر القنوات العربية الإخبارية عراقة، عندما صححت معلومة خاطئة نشرها على صفحته الشخصية. أرسل لي قائلاً: "من أنت وما هي منصة تأكد؟ أنت وهي مجرد كائنات فيسبوكية!"
لكن هذا لم يُحبطني، بل أوقد فيّ شرارة الذهاب خطوة إلى الأمام. فقررت إنشاء موقع إلكتروني، أُطلق في 15 نيسان/أبريل 2016.
الصحافة الحقيقية لا تكتفي بشغف عشاقها، بل تلح علينا كي نتعلم. في هذه المهنة، لا ساعات محددة للعمل، ولا عمرٌ يتوقف فيه التعلم. وبالعمل والتعلم مضيتُ أنا والحالمون أمثالي. بدأنا نطّلع على تجارب وخبرات في مجال التحقق من الأخبار، نأخذ منها ما يفيد ونطوّر تجربتنا الخاصة، لأن "تأكد" هو المشروع الأول من نوعه في سوريا.
لاحقاً، انضم الصديق الصحفي ضرار خطاب للعمل معي، وبدأنا نتشارك الهمّ، ونطوّر المشروع أكثر فأكثر. وفي عام 2021، كانت هناك ولادة جديدة لهذا المشروع، من خلال موقع جديد أُطلق في بداية شهر شباط، متخصص في التحقق من المعلومات، قائم على سياسات رصينة، ترسّخ ثقافة التحقق والالتزام بالحقيقة، وتعزز الوعي الجماعي والمسؤولية في مواجهة التضليل.
"تأكد"، رغم إمكانياتها البسيطة، ورغم أن الفريق الذي يقف وراءها يُعدّ على أصابع اليد الواحدة، إلا أنها تقف بثبات. السر في ذلك أمران: الإيمان بالمشروع، والاستقلالية التامة.
هذه الاستقلالية هي من تركة الثورة، لأن الالتزام بالحقيقة لا يستوي دون حرية، أي التحرر من الاستقطاب والانحياز والخنادق التي تذبح الصحافة العربية من الوريد إلى الوريد.
ما سبق كلمات من القلب، قد يكون فيها شوائب أو نقص، لكنها تحمل مبدأً نبيلاً. وإلى حين تحقيق الأهداف الكبرى، أود أن أوجّه شكراً عميقاً، لا مبتذلاً، لكل متابعي منصة "تأكد"، ولكل من دعمني بالنصح والنقد، ولزوجتي، وللأهل والأصدقاء والزملاء، ولصديق لدود، أستاذ ومعلم، صاحب بصمة كبيرة في وعيي السياسي والإنساني والأخلاقي والصحفي: رأفت الرفاعي، الذي، وللمفارقة الساخرة، يتعرض لحملة تشويه قائمة على الكذب والتضليل.
© جميع الحقوق محفوظة 2025 - طُور بواسطة نماء للحلول البرمجية