بين المضلِّلين ومُكافحي التضليل: كيف تُعاقب ميتا من يكشف الحقيقة؟

رافي برازي
calendar_month
نشر: 2025-07-11 , 12:14 م
edit
تعديل: 2025-07-12 , 1:45 م

الادعاء

تسمح ميتا بانتشار حسابات تنشر معلومات مضلّلة وتحريضًا سياسيًا على منصاتها، في وقت تُقيّد فيه منشورات تحقق موثوقة تكشف هذه الادعاءات، بحجج تتعلق بـ"المضايقة" أو "انتهاك المعايير". هذا التناقض في تطبيق السياسات لا يمر دون أثر، خاصة في السياق السوري، حيث تنشط حسابات تدّعي صفات رسمية وتروّج لروايات غير دقيقة حول قضايا حساسة، بينما تُحذف محتويات تحقق مهنية توثّق الحقائق. في هذا التقرير، نسلّط الضوء على أنماط هذا الخلل، وأمثلة من الواقع السوري، والتأثير المباشر على بيئة المعلومات وثقة الجمهور.

حسابات تدّعي صفات رسمية

تنتشر على منصات التواصل الاجتماعي حسابات شخصية تقدّم نفسها على أنها تابعة لوكالات أو منظمات أممية، وتنشر معلومات غير دقيقة أو مضللة حول قضايا حساسة في سوريا، كملفات المعتقلين والمساعدات الإنسانية واللاجئين. وتعتمد هذه الحسابات على اللغة الرسمية وذكر مصطلحات توحي بمصداقية عالية، ما يجعل الجمهور يتعامل معها كمصدر موثوق، في ظل غياب تدقيق أو مراجعة واضحة من قبل شركات التقنية المسؤولة عن تلك المنصات.

بسام حنا: شبكة تضليل واسعة بواجهة رسمية مزيفة

يقدّم بسام حنا نفسه عبر حسابه الموثق على فيسبوك بأنه "دبلوماسي في الأمم المتحدة" و"دكتور في القانون الدولي وحقوق الإنسان"، ويزعم عمله في قسم شؤون اللاجئين. يدير حنا أربع صفحات رئيسية على منصة فيسبوك يتجاوز مجموع متابعيها 6.1 مليون. الصفحة الأولى والأبرز تحمل اسمه "Dr. Bassam Hanna" ويتابعها أكثر من 2.5 مليون شخص، وتُعرّف نفسها بوصف "الدكتور بسام حنا، الدبلوماسي في الأمم المتحدة". ورغم عدم تسجيل تغيير في اسم الصفحة ضمن قسم الشفافية، إلا أن منشورات سابقة تعود لعام 2021 تُظهر أن محتواها كان ترفيهيًا ويتمحور حول النكات تحت اسم "نكت للصبح" .

الصفحة الثانية "Dr Bassam Hanna" أيضًا، أُنشئت بتاريخ 8 كانون الثاني/يناير 2022، وكان اسمها الأصلي "Yasser Galal"، وتضم اليوم قرابة مليون متابع. أما الصفحة الثالثة فهي صفحة شخصية باسم "Bassam Hanna" أُنشئت بتاريخ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2004 ويتابعها نحو 66 ألف شخص،  بينما الصفحة الرابعة كانت تحمل اسم "Dr Bassam Hanna" أيضاً قبل ان تتغير الى "MR.X"، لكن سُجل أنها بدأت تحت عنوان "أغاني حب $" بتاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 2019، قبل أن يتم تغيير اسمها و محتواها.

جمعت منصة "تأكّد" مجموعة من الأدلة والشهادات التي تفنّد الادعاءات التي يروّجها بسام حنا عبر حساباته، وتكشف نمطًا واضحًا من التضليل المنظّم. أظهرت التحقيقات أن حنا يقيم في ألمانيا، ويقدّم نفسه على أنه "دبلوماسي في الأمم المتحدة" و"دكتور في القانون الدولي وحقوق الإنسان"، دون أن يملك أي صفة رسمية أو ارتباط مهني بأي منظمة دولية، وفق ما أكده  مكتب المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا و مكتب المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا- غير بيدرسون في تصريح لـ "تأكد".

كما بيّنت شهادات لأشخاص يعرفونه شخصياً أنه لا يحمل أي مؤهل أكاديمي من التخصصات التي يدّعيها. واعتمد التحقق على مراجعة سجل صفحاته، التي كانت ترفيهية وساخرة قبل كانون الأول/ديسمبر 2024، ثم تحوّلت إلى منصات سياسية تبث محتوى يوحي بالصفة الرسمية.

ومن بين المزاعم التي يروّجها حنا: قدرته على نقل أسماء المعتقلين والمفقودين إلى جهات دولية، ومبادراته الاممية، والدعوة إلى التقسيم أو الانفصال، مستخدمًا لغة توحي بعلاقات دبلوماسية غير مثبتة. ويعتمد في خطابه على استغلال ثقة الجمهور بالمؤسسات الدولية، ما يجعل نشاطه أحد أبرز الأمثلة على الانتحال والتضليل في الفضاء الرقمي السوري.

ينتهك بسام حنا عبر نشاطه الرقمي عدة سياسات معلنة من قبل شركة ميتا، أبرزها: سياسة الانتحال من خلال تقديم نفسه بصفة دبلوماسي وموظف في الأمم المتحدة دون أي صفة رسمية، وسياسة المعلومات المضللة الضارة عبر نشر محتوى غير دقيق حول المعتقلين، والمساعدات، واللجوء، فضلًا عن سياسة الاحتيال من خلال طلب معلومات شخصية من الجمهور على أساس وعود زائفة بالتواصل مع جهات دولية. كما يخرق سياسة "السلوك غير الأصيل" بسبب إدارته شبكة من الصفحات تحوّلت من ترفيهية إلى سياسية، ويستخدمها للترويج لروايات تضليلية واسعة الانتشار.

استنادًا إلى هذه الممارسات، أعدّت منصة "تأكّد" تحقيقاً حول شخصية حنا، استند إلى مراجعة مصادر مفتوحة، وسجلات الصفحات التي يديرها، وشهادات مباشرة من أفراد يعرفونه. كشف التحقيق أن إحدى الصفحات التي يديرها – والتي حصلت على التوثيق من فيسبوك – استندت في طلب التوثيق إلى مقال مدفوع نُشر في مدونة غير موثوقة، وحذف المقال لاحقًا بعد الجدل الذي أثاره، ورغم وضوح حجم التضليل، لم تتخذ ميتا أي إجراء بحق هذه الحسابات، بل حذفت منشور التحقيق الذي نشرته "تأكّد"، واعتبرته "مضايقة"، في تجاهل لحقيقة أن "تأكّد" جهة تحقق موثوقة وشريكة ضمن برنامج ميتا. 

سرمد الطول: قاضٍ بلا صفة

يُدير سرمد الطول صفحة شخصية على فيسبوك تحمل اسمه الحقيقي "Sarmad AlTall"، أُنشئت بتاريخ 1 شباط/فبراير 2015، ويتابعها نحو 6300 شخص. لا يمتلك الطول أي صفحات أخرى نشطة، وصفحته الوحيدة لم تشهد أي تغيير في الاسم أو الهيكل منذ إنشائها. يعرّف نفسه عبر هذه الصفحة بصفته قاضٍ مشرّع في مقر الأمم المتحدة في مقر الأمم المتحدة.

قبل سقوط الأسد، كان محتوى الصفحة يركّز على مهاجمة المعارضة المسلحة، والتشكيك في مشروعية الثورة السورية، مع لهجة حادة الدين الإسلامي وتاريخه ضمن إطار تحليلي، إضافة إلى منشورات تشكّك في الأنظمة العربية. أما  خلال معركة ردع العدوان و بعد سقوط الأسد، تحول الطول الى مهاجمة السلطة الجديدة في سوريا والفصائل المشاركة في العملية، وكتب سلسلة بعنوان "نعم قابلت الجولاني الإرهابي" ادعى فيها لقاءات حصلت بينه وبين الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، مستغلاً صفته رسمية أممية تتيح له الوصول إلى دوائر القرار. كما بدأ بنشر سلسلة أخرى بعنوان أسرار الآلهة، يروّج من خلالها لما يعتبره مؤامرة دولية لإعادة تشكيل السلطة في سوريا، بمشاركة أطراف إعلامية ودولية.

رغم تقديم سرمد الطول نفسه بصفته "قاضياً مشرّعاً في مقر الأمم المتحدة"، إلا أن هذا الادعاء لا يستند إلى أي إثبات رسمي أو وثيقة موثوقة. وتأتي هذه الصفة المزعومة في سياق مشابه لما فعله بسام حنا، الذي ادعى تمثيله للأمم المتحدة أيضًا، ونفت المنظمة رسميًا في رد مباشر تلقّته منصة "تأكّد"  وجود أي علاقة له أو صفة تخوّله التحدث باسمها. في ذات النفي لحالة بسام حنا، نظرًا لعدم وجود أي سجل باسمه في قوائم العاملين أو المستشارين لدى الوكالات الأممية، فضلًا عن عدم ظهور اسمه في أي سياق رسمي مرتبط بالأمم المتحدة داخل سوريا أو خارجها.

ويكتفي الطول بذكر صفته في خانة المهنة ضمن صفحته الشخصية، دون أن يقدّم ما يثبتها، مستغلًا هذه العبارة كغطاء لمحتوى يوحي بالارتباط بمؤسسات دولية، ويوظفها لبناء صورة عامة تمنحه مصداقية زائفة لدى الجمهور.

ينتهك سرمد الطول عبر صفحته الشخصية على فيسبوك عدّة من سياسات ميتا الأساسية، بشكل مباشر ومتكرر. أول هذه الانتهاكات يتمثّل في انتحال الهوية، إذ يقدّم نفسه بصفة أممية، دون أن يمتلك أي صفة رسمية أو ارتباط حقيقي بالمنظمة، وهو ما يخالف سياسة ميتا التي تحظر ادعاء صفات مهنية مزيفة خاصةً حين ترتبط بجهات دولية. كما يندرج محتوى منشوراته ضمن المعلومات المضللة، حيث يروّج لروايات لا تستند إلى أي دليل، مثل مزاعم بلقاءات مع الرئيس السوري الجديد، ومؤامرات دولية لإبقاءه في الحكم، دون إرفاق أي توثيق. كذلك يتضمن نشاطه تحريضًا سياسيًا ذا طابع استقطابي، إذ يحرض ضد جهات وشخصيات عامة، ما يخالف معايير المنصة المتعلقة بمنع التحريض والعنف.

منشورات تشعل الفوضى الرقمية

شادي أبو عمار يعرف نفسه على أنه ناشط سوري مقيم في هولندا، يدير شبكة من الصفحات العامة والمنظمات التطوعية والإعلامية على فيسبوك، يتابعها أكثر من 446 ألف مستخدم. أبرز هذه الصفحات هي "وحيد" التي تضم 414 ألف متابع، إلى جانب صفحته الشخصية التي تضم 15 ألف متابع، وصفحتي "الجيش الوطني الإلكتروني" و"الحركة الشبابية الدرزية" اللتين تتقاطعان مع نشاطه في تغطية الأحداث في السويداء الى جانب مجموعة من المبادرات التطوعية و مجموعات على تطبيقات الدردشة. وتُدار صفحة وحيد من عدة بلدان، أبرزها هولندا، إلى جانب سوريا، وقبرص، ولبنان.

قبل تاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، كان المحتوى المنشور عبر صفحة شادي أبو عمار الرئيسية يركّز على انتقاد النظام السوري السابق، وتسليط الضوء على الأوضاع في السويداء، بينما كانت صفحة "وحيد" تكتفي بنشر فيديوهات تتضمن اقتباسات وعبارات عامة، دون طابع سياسي. ومع اندلاع معركة "ردع العدوان"، بدأت الصفحة بعرض صور وفيديوهات لفصائل السويداء المشاركة في القتال ضد النظام، دون أن تتخذ موقفًا صريحًا يتجاوز ذلك السياق. لم يكن في تلك الفترة وجود لصفحتي "الجيش الوطني الإلكتروني" أو "الحركة الشبابية الدرزية".

أما بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، فقد بدأ المحتوى يأخذ طابعًا أكثر تصعيداً وتحريضاً، إذ بدأت الصفحة الرئيسية وصفحة "وحيد" بنشر فيديوهات ومنشورات تتضمن دعوات للانفصال والاقتتال، إضافة إلى مطالبات بدعم خارجي وخاصة الجانب الاسرائيلي ضد الحكومة السورية الحالية. كما ساهمت هذه الصفحات بترويج أخبار ومقاطع ثبت أنها مضللة، وفق ما تحققت منه منصة تأكّد، بينما حافظت صفحة "الجيش الوطني الإلكتروني" على نشر انتهاكات تحصل في قرى السويداء دون تبنّي خطاب مباشر، في حين ركزت "الحركة الشبابية الدرزية" على الحملات التطوعية واستقطاب المتطوعين في المجال الإعلامي، لكنها تبقى جزءاً من شبكة يديرها شادي أبو عمار.

ينشر أبو عمار، عبر الصفحات التي يديرها، محتوى يخالف بوضوح معايير "ميتا" في ثلاثة مجالات أساسية. كمعيار التحريض على العنف، إذ تتضمن منشوراته التي تدعو للانفصال والاقتتال، ما يشكّل خطراً مباشراً على السلم الأهلي ويشجّع على خطاب الكراهية والانقسام. و معيار المعلومات المضللة، حيث تم توثيق نشره لمقاطع وأخبار غير صحيحة أو محرّفة، ثبت زيفها بتحقيقات ميدانية، خاصة تلك التي تهدف لتشويه الحكومة السورية الحالية أو تضليل الجمهور حول طبيعة الأحداث.ثم يخالف معيار السلوك غير الأصيل من خلال إدارة تغيير محتوى صفحاته الرئيسية إلى محتوى مخالف مابنيت عليه هذه الصفحات.

هاروت كهايان: خطاب بلا توثيق

يدير هاروت كهايان صفحة رئيسية على فيسبوك باسم "Harout Ara Kehaian"، أُنشئت بتاريخ 5 كانون الأول/ديسمبر 2010، ويُديرها من لبنان، ويتابعها نحو 90 ألف شخص. يُعرّف نفسه فيها بصفته "ناشط سوري ومؤسس منصة إعلامية"، كما يمتلك صفحة أخرى تحمل اسم مشروعه "The Channel"، أنشئت في 13 حزيران/يونيو 2025، ويتابعها نحو 21 ألف مستخدم يديرها اشخاص من سوريا ولبنان. إلى جانب ذلك، صفحته الشخصية باسم "Harout Kehaian" التي  يتابعها 6.5 ألف شخص، لكنه توقّف عن النشر فيها منذ فترة. بذلك، يصل إجمالي عدد متابعي صفحاته إلى نحو 117.5 ألفًا.

حذف هاروت كهايان معظم منشوراته وصوره القديمة من صفحاته على فيسبوك في مرحلة ما قبل سقوط نظام الاسد، إلا أن الأرشيف الرقمي والمجموعات العامة التي كان ينشط فيها تُظهر نمطاً واضحاً من تأييد النظام المخلوع. الصفحة الرئيسية التي استمر باستخدامها لاحقًا كانت تبرز نشاطه المهني في تصليح السيارات، وتحتوي على منشورات تمجّد "حزب الله" اللبناني.

أما صفحته الأصلية، فشهدت في عام 2011 نشاطًا سياسياً لتنظيم لحملات دعم لنظام الأسد، ورُصدت منشورات وصور له تؤكد مشاركته في عمليات عسكرية ضمن ميليشيات الأسد في المدن السورية، وتنظيمه لتجمّع باسم "شباب مستقبل سوريا" زعم أنه مستقل، لكنه أعلن دعمه المباشر للأسد.

كما تشير شهادات محلية إلى أنه كان يدير محلًا لتصليح السيارات في حي الميدان بحلب، وأنه من أوائل من تسلّم السلاح في المنطقة بالتعاون مع شخص يُدعى ساكو غارابيتيان، حيث شكّلوا مجموعات تمارس "التشبيح" ونصبت حواجز لمضايقة الأهالي، كما شارك في عمليات قمع المتظاهرين في حمص بالتنسيق مع قوات النظام.

لكن بين عامي 2015 و2016 بدأ نمط منشوراته بالتغير تدريجياً مع انتقاله الى لبنان، حيث ظهرت له فيديوهات ومنشورات ينتقد فيها تدهور الأوضاع في سوريا، وتحدثت بعض المقالات عنه في وسائل الإعلام على أنه يقدم مساعدات مجانية في مجال ميكانيك السيارات. و بعد سقوط الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، اتخذت صفحاته منحى سياسياً جديداً، يركّز على نشر الأخبار على صفحته القناة The Channel وتحليلات استشرافية عبر صفحته الشخصية حول الوضع السوري والدولي، مستخدمًا خطاباً تحذيرياً يروّج لنظريات مؤامرة حول ترتيبات ما بعد سقوط الأسد. يعتمد كهايان في هذا الخطاب على أسلوب مبني على الاحتمالات غير المثبتة، مع تقديمها كما لو كانت سيناريوهات مؤكدة، و تعرّضت منشوراته أكثر من مرة للحذف أو التبليغ، ما دفعه إلى إخفاء جزء كبير من أرشيفه السابق، بالتزامن مع اتساع الجدل حول شخصيته ودوره الحقيقي في مراحل مختلفة من الثورة السورية.

ينتهك هاروت كهايان عدداً من معايير النشر التي تضعها شركة ميتا، وقد تلقى بالفعل إشعارات من المنصة تشير إلى مخالفاته. أبرز هذه المخالفات يتمثل في نشر معلومات مضللة، إذ تعتمد منشوراته على سرديات غير موثقة مبنية على نظريات مؤامرة تربط بين أحداث وشخصيات دولية بطريقة تفتقر لأي دليل. كما يستخدم أسلوب النشر ثم الحذف أو التعديل بعد التبليغ أو الجدل، وهو ما يندرج ضمن "السلوك غير الأصيل" بحسب تصنيف ميتا، لأنه يُستخدم للتهرب من المحاسبة أو التأثير على تفاعل الجمهور بشكل غير شفاف. ورغم هذا، لا تزال معظم منشوراته متاحة على صفحاته، دون أي تدخّل فعّال من المنصة.

تحقق موثّق من شخصية بسام حنا تحذفه ميتا

حذفت شركة ميتا في 14 آذار/مارس 2025 منشوراً نشرته منصة "تأكّد"، ردًا على استفسارات متكررة حول بسام حنا، تقدّم نفسها عبر حساب موثّق على فيسبوك بصيغة توحي بارتباط مهني ومؤهلات أكاديمية في القانون الدولي وحقوق الإنسان. المنشور المحذوف عرض نتائج تحقق رقمي، استند إلى مراجعة مصادر مفتوحة وشهادات من أشخاص يعرفون الشخصية بشكل مباشر، وتوصّل إلى أن ما يُروّجه "بسام" حول صفاته ومؤهلاته لا يستند إلى أي دليل موثّق.

أوضح المنشور أن بسام يدير شبكة من الصفحات على فيسبوك، يتجاوز عدد متابعيها ستة ملايين حساب، معظمها حسابات وهمية أو صفحات تم تغيير هويتها من محتوى ترفيهي إلى سياسي. كما أشار إلى أن توثيق إحدى الصفحات تم استنادًا إلى مقال مدفوع نُشر في مدونة غير موثوقة، وقد حُذف لاحقًا بعد مراجعة داخلية أجرتها الجهة الناشرة. وابتداءً من كانون الأول/ديسمبر 2024، بدأ "بسام" باستخدام هذه الشبكة لبث حملات تضليل، تتضمن معلومات كاذبة ودعوات متكررة لتدخلات خارجية، تحت عناوين مثيرة ومضللة.

ورغم أن المنشور الذي نشرته تأكّد المعتمدة من قبل ميتا كشريك موثوق لم يتضمن إساءة أو تهجُّم، وركز فقط على عرض نتائج تحقق مدعومة بأدلة، حذفته ميتا بدعوى انتهاك سياسة "المضايقة والإساءة". في المقابل، لم تتخذ المنصة أي إجراء ضد الحساب المعني، رغم طبيعته التضليلية واتساع تأثيره. هذه الواقعة تعكس ازدواجية واضحة في تطبيق السياسات، وتُظهر كيف يمكن أن تتحوّل معايير الحماية من الإساءة إلى أداة تُستخدم لحجب التحقق المهني، بدلًا من مساءلة من يقدّم نفسه بصفات لا تستند إلى واقع.

نموذج مكرر: التساهل مع التضليل، والتشدد مع من يفضحه

ما حدث في السياق السوري ليس حالة معزولة، بل يتكرر في بلدان ومواقف أخرى، كما يوضح تقرير نشرته صحيفة الغارديان، أن وافقت ميتا في الهند مثلًا على نشر إعلانات تحتوي على دعوات صريحة للعنف والكراهية الدينية، رغم أنها تخالف بشكل مباشر سياسات المنصة بشأن التحريض وخطاب الكراهية. الإعلان الذي مرّ دون اعتراض تضمّن عبارة "لنحرق هذه الحثالة"، واعتُمد كجزء من اختبار قامت به جهة رقابية مستقلة، أظهر أن خوارزميات ميتا تسمح بمرور محتوى شديد الخطورة بسهولة.

في المقابل، سجّلت حالات موثقة لإزالة منشورات تحقيق أو محتوى ناقد لأشخاص مؤثرين أو سياسيين، فقط لأنهم وُصفوا بسخرية أو انتُقدوا ضمن محتوى عام. إحدى هذه الحالات كانت إزالة منشور يصوّر سياسييْن أمريكييْن بشكل ساخر، اعتبرته ميتا "مضايقة" رغم أنه لم يتضمن تهجمًا شخصيًا، وقد أُعيد لاحقًا بعد مراجعة من مجلس الإشراف نفسه. وهو ما يدل على استخدام فضفاض لقواعد "السلوك الضار"، بشكل يُمكّن بعض الشخصيات من حماية أنفسهم من النقد، حتى لو كان ذلك على حساب الكشف عن تضليل أو تضخيم.

ما تكشفه هذه الأمثلة مجتمعة أن ميتا لا تطبّق معاييرها بشكل ثابت أو عادل. بل تبدو أحيانًا وكأنها تمنح غطاءً تقنيًا لمن ينشر الأكاذيب، بينما تقيّد أدوات التحقيق والتفنيد، سواء كانت منظمات مستقلة أو أفرادًا. وهذا الخلل البنيوي في طريقة الإشراف الرقمي لا يُنتج فقط بيئة غير متوازنة، بل يسمح بأن تصبح الأكاذيب أكثر رواجًا وتأثيرًا من الحقائق.

تراجع الدعم لمدققي الحقائق: سياسة جديدة تُضعف المواجهة

وأنهت ميتا في مطلع عام 2025 برنامجها الرسمي للتحقق من المعلومات عبر جهات مستقلة، والذي كان يتيح لمؤسسات التحقق المتخصصة مراجعة المحتوى العام وتنبيه المستخدمين إلى الأخبار الكاذبة. القرار جاء دون إعلان مفصّل، واكتفى مارك زوكربيرغ بتقديمه باعتباره خطوة نحو "دعم حرية التعبير" وتقليص "الرقابة". لكن توقيت القرار، الذي تزامن مع ضغوط سياسية داخلية من شخصيات معروفة بنشر خطاب مضلل، أثار شكوكًا واسعة حول دوافعه، واعتُبر تراجعًا عن التزامات المنصة السابقة بمحاربة التضليل.

هذا التراجع لم يؤثر فقط على بنية الإشراف داخل ميتا، بل انعكس بشكل مباشر على بيئة العمل الصحفي والتحققي، كما أشار تقرير دولي وصف الخطوة بأنها "ضربة قاسية لمجتمع التحقق"، و"تفكيك لأدوات الحماية المعلوماتية" التي كانت تميّز المنصة بعد عام 2016. وقد أتاح غياب هذه الشراكات المهنية للمحتوى الكاذب أن ينتشر بلا أي مراجعة، في وقت تزايد فيه استهداف الصحفيين والمدققين عبر المضايقة أو حظر منشوراتهم، أحيانًا استنادًا إلى شكاوى من الجهات التي تم كشف تضليلها.

من خلال هذا التحول، لا تقتصر المشكلة على تقييد من يحاول فضح الأكاذيب، بل تتمثل في تفكيك البنية التي كانت تمنح التحقق صفة مؤسسية وشرعية داخل المنصة. وإذا استمر هذا المسار، فمن المرجّح أن تتجه بيئة المعلومات نحو مزيد من الهشاشة والاختلال، حيث تزداد قوة الروايات المضللة مقابل تراجع المحتوى القائم على التدقيق. في السياقات المعقّدة مثل سوريا، حيث يعتمد جمهور واسع على المنصات الرقمية كمصدر رئيسي للمعلومة، يُتوقع أن يُفضي هذا التراجع مستقبلاً إلى تقليص حضور الأصوات المهنية، وتوسيع تأثير الحملات المنظمة التي تستثمر في التلاعب والمحتوى الزائف.

كيف تعيد ميتا تعريف الحقيقة وتقييد من يكشفها؟

تُظهر الحالات التي وثّقتها "تأكّد" وغيرها من المؤسسات أن ممارسات ميتا في الإشراف على المحتوى لا تنسجم مع المبادئ التي تعلنها حول الشفافية وحماية النقاش العام. فعندما تُمنح مساحة واسعة للمعلومات الكاذبة، وتُحذف في المقابل منشورات تحقق موثقة، تتحول المنصة إلى بيئة غير متوازنة تُضعف الخطاب المهني وتعزز الروايات المضللة. هذا التناقض لا ينعكس فقط على الجهات التحققية، بل يطال ثقة الجمهور ومصداقية الفضاء الرقمي ككل.

السياق السوري، بما يحمله من تعقيدات سياسية وإعلامية، يتأثر بشكل مضاعف بهذا الخلل. إذ لا تملك الجهات المحلية المستقلة ذات الموارد أو الحضور الكافي لتعويض تقصير المنصات الكبرى، ما يجعل مساءلة هذه المنصات ضرورة لا ترفًا. ويبقى السؤال المطروح: هل ستعيد ميتا النظر في طريقة تطبيق معاييرها، أم ستبقى مفارقة "معاقبة من يفضح التضليل" واقعًا يفرض نفسه في النقاش العام؟

لماذا تأكد؟!

منصة تأكد منصة مستقلة وغير متحيزة متخصصة بالتحقق من الأخبار والمعلومات تأسست في سوريا أوائل عام 2016 لمواجهة انتشار المعلومات المضللة.

معتمدة من:

certified

دليل التحقق

certified

شاركنا لنتأكد

© جميع الحقوق محفوظة لمنصّة تأكّد 2025